محمد رشدي شربجي
شكل جاستن ترودو، رئيس الوزراء الكندي الشاب، الأسبوع الماضي حكومته التي أبهرت العالم، الحكومة العابرة للقوميات والديانات الكندية والتي كشفت حجم الفجوة الهائلة التي تفصل كندا عن العالم، عدا عن الفجوة التي تفصلنا عن العالم أصلًا.
حتى مطلع القرن الماضي كانت الإمبراطوريات هي الشكل السائد لتشكيل الدول، وعادة ما تكون الإمبراطوريات دينية في هويتها، وتركز من بين الروابط الموجودة على أراضيها على الرابطة الدينية كرابطة معتمدة لتعامل أبناء الإمبراطورية مع بعضهم، لأنها تضم قوميات متعددة لا تنتهي، فهي بطبيعتها ذات حدود مفتوحة، وتنتهي حدود الإمبراطورية دائمًا في المكان الذي تنهزم فيه جيوشها.
ظهرت الفكرة القومية في إطار التنظير للدولة الحديثة التي اتخذت العلمانية وفصل الدين عن الدولة كأساس لها في أواخر القرن التاسع عشر، وقد أدى تبني النخب التركية “تركيا الفتاة” للقومية التركية ومضي الدولة العثمانية في سياسة التتريك إلى تنامي النزعة القومية في مكونات الإمبراطورية العثمانية نفسها، بدءًا بدول البلقان في شرق أوروبا وانتهاءً بالعرب الذي كانوا آخر الملتحقين بالركب القومي تقريبًا.
لكنّ اندلاع الحرب العالمية الأولى أدى إلى تفكك الإمبراطوريات الكبرى (الروسية، العثمانية، المجرية) وصعود القومية كمكون أساسي معتمد في تشكيل الأمم، ومن ثم تشكيل الدول المتطابقة مع الأمم القومية “أمة_دولة”، وتراجعت في هذه الدول أهمية الدين لصالح القومية التي وجدتها هذه الدول قادرة على تشكيل هوية أكثر تماسكًا.
ينشأ على أطراف الإمبراطوريات المنهارة ما يسمى بالأقاليم الهشة، وهي الأقاليم التي لم تأخذ وقتًا كافيًا للتشكل وفقًا لنظام “الدولة_الأمة” سابق الذكر، وتكون هذه الأقاليم أكثر تأثرًا بالاضطرابات الحاصلة في النظام الإقليمي والدولي المحيط بها، وهو ما حصل في دول البلقان عشية انهيار الاتحاد السوفيتي، حيث انفجرت الصراعات الإثنية _اللغوية بين دول البلقان وشكلت تحديًا أخلاقيا وأمنيًا وسياسيًا للاتحاد الأوروبي، وهو ما اعتبره الفيلسوف الكندي ويل كيمليما، في كتابه المهم “أوديسا التعددية الثقافية”، أحد أبرز الأسباب التي سلطت الضوء على ضرورة التأكيد على التعددية الثقافية والقومية واللغوية في العصر الحديث.
لا توجد دولة في العالم بلا أقليات قومية مهما صغرت، وقد اختلف التعامل مع هذه الأقليات بين دولة أخرى، واستمرت المطالبة دائمًا بأن تكون هوية الدولة انعكاسًا لكافة مكوناتها وليس فقط مكون الأغلبية فيها، ولذلك ظهر منذ خمسينيات القرن الماضي أن مفهوم القومية لوحده لم يعد كافيًا لتشكيل هوية متماسكة لأبناء الدولة الواحدة، خاصة مع تنامي المطالب الشعبية بالمشاركة الشاملة لكل الأطياف، وتزايد الحروب والصراعات الإثنية كما أشرنا.
تزامن ذلك مع تنظير فلسفي “ما بعد حداثوي”، تغيب فيه المركزية وتتكاثر المرجعيات، وفي إطار هذا التنظير اعتبرت المواطنة (وليست القومية ولا الدين) هي الرابط الأساسي الجامع لأبناء الوطن الواحد، واعتبر النظام اللامركزي “الفيدرالي” الملتزم بالتعددية الثقافية والقومية )مثل كندا) نظامًا متقدمًا ومتطورًا، مقارنة بالنظم المركزية أحادية القومية (مثل تركيا وفرنسا) التي اعتبرت شديدة التخلف وفقًا لكيمليكا.
تكمن إحدى أزمات التفكير الإسلامي العربي حين يتعالى مع العالم في أنه لم يمر بالمراحل السابقة، فالإسلام هو الدين الوحيد الذي لم يتعرض لعملية علمنة مشابهة لما حصل للمسيحية أو الأديان الأخرى، كما أن فشل الدول القومية العربية السريع لعوامل عديدة؛ منها ذاتي ومنها موضوعي، أعاد التأكيد على ضرورة بناء الخلافة من جديد والعودة للإسلام، والتي دائمًا ما صورت عودة إلى عهد “السلف الصالح” بحذافيره وتنظيراته وطريقة تفكيره.
ولكن أمهات الكتب التي كتبها “السلف الصالح” في عصر التدوين في منتصف القرن الهجري الثاني لم تكتب في بيئة مجردة من تأثيرات السياسة والتاريخ، كما أنها تعكس بطريقة أو بأخرى طريقة تفكير إمبراطوري كانت عليه حال السلف في ذلك الزمان، وهو أمر شديد الاختلاف عن حال المسلمين اليوم، وهنا تظهر أزمة التفكير الإسلامي العربي في تعامله مع العالم الذي تجاوزت أجزاء منه النماذج القومية التقليدية، في حين بقي التنظير الإسلامي عالقًا في عصر الإمبراطوريات.
في الوقت الذي تبهر فيه كندا العالم بنموذج تعددي أخلاقي بديع، تنحصر خياراتنا بين تنظيم البغدادي أو نظام الأسد، وهو ما يؤكد مرة بعد أخرى ضرورة الإصلاح الفكري والديني، لا لنمضي في المسار الكندي بحذافيره فلكل أمة مسارها الخاص، وليس إصلاحًا دينيًا كما يريده السيسي، فهذه مهمة أرفع من أن يقوم بها المهرجون، ولكن لكي يكون لنا “شيءٌ ما” في هذا العالم.