عنب بلدي – جنى العيسى
بدا حاكم مصرف سوريا المركزي، محمد عصام هزيمة، خلال لقائه بعدد من التجار والصناعيين بدمشق، في 22 من أيلول الماضي، خائفًا على الاقتصاد السوري “الذي لم يعد قادرًا على تحمل الهزات الناتجة عن الممارسات الفردية الخاطئة”، بحسب تعبيره.
ووجه هزيمة حينها خطابه إلى أصحاب رؤوس الأموال المقيمين في سوريا، مصوّرًا أن النظام يتعامل معهم جميعًا على أنهم سواسية، ومهددًا إياهم بعواقب قد تطالهم في حال تجاوزهم للقوانين.
وبأساليب مختلفة، تحدث هزيمة إلى رجال الأعمال عن هدف القرارات المصرفية الأخيرة في رفع سويّة الاقتصاد وخدمته، معتبرًا أنها لا تلحق الضرر بهم “كما يظنون”.
ورغم أن قرارات مصرف سوريا المركزي الأخيرة تضر فعلًا بمصالح بعض أصحاب الأموال وتضيّق الخناق على بعض رجال الأعمال الموجودين في سوريا، فإنها تصب في مصلحة تجار مقربين من النظام، لا تسري عليهم جميع القوانين المفروضة كما تسري على غيرهم، بحسب ما يراه باحثون اقتصاديون.
وخلال السنوات الماضية، برزت أسماء العديد من رجال الأعمال المؤيدين للنظام السوري، استخدمهم من أجل حماية مصالحه الاقتصادية في السابق، ودعمهم إلى أن أصبحت القرارات التي يفرضها اليوم تُفصّل على قياسهم.
“النظام هو الحلقة الأضعف”
أكد الباحث في الاقتصاد السياسي يحيى السيد عمر، وجود توجه في مناطق سيطرة النظام السوري لدعم شرائح محددة من رجال الأعمال على حساب الأغلبية من التجار الآخرين.
ويرى الباحث، في حديث إلى عنب بلدي، أن هذا الأمر في جوهره يعود بالضرر على جميع شرائح المجتمع بما فيها النظام، لكن باستثناء التجار المدعومين، مشيرًا إلى أن مصلحة النظام الأساسية تقوم على دعم الدورة الاقتصادية، من أجل تخفيف الضغوط والأزمات المتعايشة معه، وبالتالي فإن دعمه لتجار دون آخرين يُلحق الضرر بتلك المصلحة.
وفسّر يحيى السيد عمر حالة تخبّط النظام هذه بالسماح لوجود أفعال تضر بمصلحته، بغياب سيطرته والسلطة التي كان يتحكم بها سابقًا على معظم القطاعات في الدولة، كالسياسية والعسكرية ومثلها الاقتصادية.
وبسبب غياب المركزية في مختلف القطاعات، فإن حكومة النظام هي الحلقة الأضعف ضمن جملة القوى الفاعلة في سوريا، إذ تغيب رفاهية اتخاذ القرارات لديها، فلا تستطيع دعم أي نشاط اقتصادي أو عرقلة آخر، بحسب ما أوضحه الباحث السيد عمر.
ويعتقد السيد عمر أن ضعف النظام بهذا القدر، أدى إلى ظهور قوى عديدة فاعلة في مختلف القطاعات، وفي الاقتصاد ظهر بعض رجال الأعمال ليمتلكوا سيطرة غير مباشرة على بعض مفاصل الحكم، فأصبح بإمكانهم استصدار قرارات تدعمهم وتصب في مصالحهم، على حساب صغار رجال الأعمال، الأمر الذي يعزز وبشكل مباشر “تحول النظام إلى مافيات”.
وفي 9 من حزيران الماضي، وخلال زيارة لرئيس النظام، بشار الأسد، إلى مدينة عدرا الصناعية بريف دمشق، وأمام عدد من الصناعيين ورجال الأعمال المقربين منه، تعمّد الأسد مدح رجال الأعمال المؤيدين لسلطته والذين بقوا إلى جانبه، واعدًا إياهم بتقديم التسهيلات.
ومقابل ذلك، لم يفوّت الأسد الفرصة لتوجيه رسائل سلبية ضد رجال الأعمال الذين خرجوا من البلاد، وانطلق من الواقع المعيشي للمواطن في سوريا، لتحميلهم مسؤولية تدهور ظروف السوريين الاقتصادية، معتبرًا أنهم بخروجهم من سوريا “خانوا المواطن”.
“معي وإلا الخسارة”
أسلوب النظام السوري في دعم التجار وتمييزهم عن بعضهم، يعتمد على فلسفة تبناها وعمل بها في تعاملاته مع التجار والصناعيين وأصحاب رؤوس الأموال منذ اندلاع الثورة السورية، بحسب ما يراه الباحث الاقتصادي خالد تركاوي.
وقال تركاوي، في حديث إلى عنب بلدي، إن النظام زرع في رؤوس هؤلاء التجار، بأنهم يجب أن يكونوا جزءًا منه، مندمجين معه في جميع حالاته، ومتشاركين ذات المصير، إذ صوّر لهم بأن سقوطه يعتبر سقوطًا لهم، ونجاحه سيعود عليهم بالنجاح أيضًا.
وأضاف تركاوي أن بعضهم اقتنع بهذه الفلسفة وبدأ السير بركب النظام، مشيرًا إلى أن من رفض التبعية للنظام أصبح الآن مصيره معروفًا، فإما مصادرة أمواله بحجج قانونية كثيرة، وإما تعرضه لمضايقات أمنية من قبل جماعات تابعة للنظام.
وخلال السنوات الماضية، أصدرت وزارة المالية في حكومة النظام الكثير من القرارات التي تقضي بالحجز الاحتياطي أو مصادرة أموال تجار وصناعيين، أبرزها في مدينتي حلب ودمشق، بتهم متعددة منها التهريب أو عدم دفعهم الضرائب التي تفرضها الدولة عليهم.
وبحسب تقرير لمركز “جسور للدراسات” صدر في نهاية آب الماضي، تعود أسباب حملة الحجز الاحتياطي على ممتلكات حوالي 650 تاجرًا في مدينة حلب، إلى رغبة النظام باستغلال تجار حلب لسد العجز المالي الذي يعانيه من جهة، وإلى حرص النظام على تطويع تجار حلب ومستثمريها المتمتعين بعلاقات تجارية واسعة وقدرات مالية كبيرة، وإرغامهم على الانضباط بمنظومته الأمنية والاقتصادية، لا سيما المتذمرين منهم من دور بعض الجهات الحكومية أو الأذرع الأمنية الرسمية والرديفة في عرقلة عجلة الصناعة والتجارة في حلب.
وفي 25 من أيلول الماضي، أعلنت وزارة المالية عن إصدارها ألفي قرار حجز احتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة لتجار وحرفيين وشركات في محافظة دمشق فقط خلال النصف الأول من العام الحالي.
ووصلت قيمة الأموال التي تمت المطالبة بها عبر تلك القرارات، إلى حوالي 5.5 مليار ليرة سورية، بحسب الوزارة.
“ثلاثة خيارات لأصحاب الأموال”
ستؤدي تلك الممارسات التمييزية بين التجار على أساس “ولائهم” للنظام إلى ثلاثة خيارات لطرق سيسلكها رجال الأعمال الموجودون اليوم في سوريا، بحسب ما يراه الباحث الاقتصادي خالد تركاوي.
يتجلى الخيار الأول بموافقة بعض التجار على الدخول ضمن منظومة دعم النظام، وتقبّل المصير الواحد لكليهما، وهو ما يلاحَظ جليًا في سلوك عدد من التجار اليوم، وهم بهذا الخيار مجبرون على اتباع شروط هذه المنظومة، كالتبعية لمختلف القوى الاقتصادية المسيطرة كروسيا وإيران وحتى النظام.
كما يرى بعض التجار في تكتّلهم إلى جانب بعضهم مطالبين بقرارات تحفظ حقوقهم قدر الإمكان، جزءًا من حل قد يساعدهم في المقاومة بعدم الانصياع لمطالب النظام، إلا أنه حل مؤقت، بحسب ما أوضحه تركاوي، مشيرًا إلى أن عقلية النظام تعتبر قضية تكتّلهم “أخطر” من إجراء آخر قد يتخذونه، حتى لو انتهى بهم المطاف بالخروج من سوريا.
بينما يُمكن لبعض التجار الآخرين، كخيار ثالث، أن يبحثوا عن خلاصهم الفردي من التبعية التامة لأساليب النظام الاقتصادية، وخروجهم خارج سوريا، وفقًا لتركاوي.
وأضاف تركاوي أن هذه الفئة من التجار، بدت تتزايد خلال الفترة الماضية، مع إدراكهم أبعاد قضية الاشتراك مع النظام في ممارساته، في ظل ما يعزز اللجوء إلى هذا الخيار من ضعف الخدمات المحلية المقدمة إليهم، بالإضافة إلى التضييق الذي يواجهونه.
وخلال الأيام الماضية، كثرت الأحاديث عن هجرة كبيرة تشهدها سوريا لصناعيين وحرفيين.
إلا أن عددًا من المسؤولين شككوا بحجم الهجرة التي تحدثت عنها مختلف وسائل الإعلام، ومنهم من نفوها أساسًا، بهدف عدم الترويج لهذا الحل الذي يرى فيه الكثير من أصحاب الأموال خلاصًا لمعاناتهم.
وفي مطلع آب الماضي، قال رئيس قطاع النسيج في غرفة صناعة دمشق وريفها، مهند دعدوش، إن مناطق سيطرة النظام السوري شهدت هجرة “خيالية” من الصناعيين “الذين لا يمكن تعويضهم” نحو مصر، نتيجة الصعوبات التي يعانون منها في سوريا.
بينما نفى وزير الصناعة في حكومة النظام السوري، زياد صباغ، موضوع الهجرة أساسًا، إذ قال في حديث إلى إذاعة “شام إف إم” المحلية، في 26 من أيلول الماضي، إن أي صناعي لم يغادر سوريا خلال الفترة الماضية.