عاصمة الثورة المتناقضة
أحياء حمصية خاوية وأخرى عطشى للحياة
قنديل ضاهر
ثمة تنافض مخيف ومربك يشعر به من يمر بحمص لأول مرة بعد 2011. من الصعب استيعاب معادلة الحياة المجاورة للخراب، وأنّ أمتارًا قليلة تفصل بين عوالم متطرفة في اختلافها.
المساحة الأكبر من المدينة مغلقة ومهدّمة إثر قصفٍ دامَ لما يزيد عن ثلاث سنوات، وبضعة أحياء صغيرة مأهولة ومكتظّة بمنْ تَبقّى من أهل المدينة تفصلهم منطقة من البساتين عن حي الوعر، أكبر أحياء المدينة وأحدثها، والمحاصر حتى الآن. وغير بعيد عن تلك المناطق، نحو جنوب المدينة، تقع المناطق الزراعيّة التي تم الاستيلاء عليها وإعمارها دون تنظيم منذ السبعينيات، أقامت فيها الكتلة السكانيّة التي أتت من القرى المحيطة بحمص والقرى الساحليّة، إثرَ استلامهم معظمَ الوظائف الحكوميّة والعسكريّة، وباتت تعرف اليوم بأنّها القسم المؤيد للنظام في المدينة، أو ما يسمى بضفة الطائفة الأخرى من المدينة. لا تواصل بين أهل الضفتين.. قطيعة كبرى حدثت منذ اندلاع ثورة 2011 .
منطقة الوعر، بقسميها القديم والجديد، يعاني من حصار خانق على الخدمات والغذاء والدواء والوقود، ولا يسمح لأحد بمغادرته عدا الطلاب والموظفين شريطة تقديم وثائق تثبت عملهم على المعبر بشكل يوميّ.
تقول سناء، وهي موظفة حكومية من سكان الوعر، ”حين أعبر إلى خارج الحي، أشعر أنني أصبحت في بلاد أخرى، على الأقل أستطيع شراء الألبسة والخضار.. أستطيع التجوّل مع خوف أقل من القذائف والقنص، لا أمتلك من المال ما يكفي لاستئجار منزل خارج الوعر، خصوصًا أن زوجي ليس موظفًا ولا يستطيع مغادرة الحي”. اعتادت سناء الخروج بسرعة بعد انتهاء دوامها لشراء بضع حبات من الخضار تحشوهم في جيوب ملابسها خفية عن عيون عناصر حاجز المعبر، لكن في أحيان كثيرة يتم اكتشاف أمرها، “يطلبون مني رميهم على الأرض”.
ليس الحصار وحده ما يشظّي المدينة. منى، الطالبة في كلية الهندسة، تقول إنها أتت من دير الزور لاستكمال الدراسة في جامعة حمص، إلا أنها صدمت بواقع المدينة وكأنها ثلاثة مدن لا ترابط بينها، “حاولت البحث عن سكن قريب من الجامعة، ففوجئت بالسكان ينصحونني بتجنب مناطق معينة لكوني محجبة، حيث من الصعوبة أن تمشي المحجّبات بسلام بين قاطنيها”.
لا تقتصر دهشة من يزور حمص على عمق الفجوة الطائفية فيها، بل تمتدّ إلى كل مظاهر الخراب والوحشة والازدحام فيها. محمد، شاب مقيم في دمشق، لم يتمكن من زيارة بيت جده في حمص منذ خمس سنوات، بسبب المخاطر التي يسمع عنها، “في النهاية ذهبت، مررت بشارع الستين وقرب شارع نزار قباني وشوارع الحميدية شعرت وكأنني أتجول في مدينة أشباح، ولازمني انقباض مؤلم جراء مشاهد الدمار والخراب، وفي نفس اليوم تمت دعوتي إلى حفلة موسيقية على مسرح المدينة، جلس الناس على الدرج لشدّة الازدحام.. شاهدت حشدًا ضخمًا من كلّ الأطياف والأعمار، يحار المرء أهي مدينة أشباح أم مدينة عطشى للحياة؟”.
تأقلم أهل حمص ولم يناقضوا أنفسهم، كما تؤكّد سالي، “يظنون أننا تعافينا ونعيش برفاهية وكأن شيئًا لم يكن، بمجرد رؤيتهم لافتتاح محل تجاري أو مطعم أو صالة أفراح صغيرة، وكأنّنا نخون التضحيات.. على الرغم من كلّ شيء لازلنا أحياء وسنكمل الحياة ما استطعنا، من لم يعش السنوات الماضية هنا يسهل عليه الاتهام والمزاودة”.
سواء تعايش أهل حمص مع ظروفهم الصعبة أم ناقضوا تمردهم وثورتهم، فالجميع يشعر بتغير طريقة تفكير الناس، جنون الأسعار وانهيار العملة وعدم القدرة على التفكير في الاستثمار، في ظل واقع مشتعل ومستقبل مبهم غيّر الكثير من المفاهيم، حيث تسود الثقافة الاستهلاكية ويضعف التواصل العائلي وسط تشتت الأفراد بين بلدان الهجرة واللجوء، ليصبح الإنترنت الشريان الوحيد الذي يربطهم مع الحياة، بين رغبة في الهروب من الواقع ورغبة في البقاء على تواصل مع من أبعدته الظروف والمسافات.
“لقد تغيرت الثقافة الاستهلاكية للناس بالتأكيد، في السابق كان الزبون يفكر ويتردد قبل شراء جهاز تعادل قيمته نصف دخله الشهري.. الآن بات يشتري بكل ما يمتلك حتى بعد أشهر من الادخار”، يقول جلال، الذي يملك محلًا لبيع الموبايلات في المدينة.
يعتبر الكثيرون أن ما تعيشه حمص “حال مؤقتة” إلى أجل غير مسمى، إلا أنّ الكل يجمع أنّ ما تشهده عاصمة الثورة سيحفر عميقًا في نفوس أهلها، الآن وحتى الأجيال اللاحقة، فما من أرض أو مدينة لم تتبادل المواجع والملامح مع من يسكنها عبر السنين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :