نبيل محمد
كل شي يهون في بلاد تعيش فيها إلا فقدان الأمان، يمكن احتمال انقطاع الكهرباء والماء وعدم توفر الخدمات، وانتشار الفقر وتفشّي الفساد العلني، ولكن لا يمكن احتمال فقدان الأمان. يفتقر الأمان، الذي يجده الفنان السوري عباس النوري مبررًا للبقاء في وطنه، إلى المعنى وفق أي تفسير بسيط للمصطلح، ما الأمان إذن، إن افتقِدَت مقومات الحياة تلك التي يعاني منها الفنان وغيره من السوريين المقيمين في البلاد حتى اليوم؟
في لقاء أجرته معه إذاعة “شام إف إم” مؤخرًا، يبحث عباس النوري لاهثًا عن مبرر عدم مغادرته سوريا، ليربط القضية تارة بالأمان الذي يشعر به حتى اليوم، ثم بـ”النكايا” بالآخرين، ثم بعدم استعداده النفسي للمغادرة، لكنه يعتبر نفسه جزءًا من صمود البلاد، وسيادتها، وهنا يعرّف أيضًا السيادة تعريفًا شكليًا سيمرّ دون تعقيب كونه يعرف ضمنيًا أن أحدًا لن يعقّب عليه رغم سهولة ذلك، فهو في النهاية يجري الحوار في إذاعة تابعة لنجوميته تصفّق لآرائه بعيدًا عن التعقيب عليها. السيادة هي الحدود والعلم والنشيد. لك أن تتخيل هذه السيادة إذن في بلد كسوريا اليوم، يصعب على أحد رسم خريطة واضحة له وللقوى المسيطرة فيه.
قد يبدو أن نقاش أفكار ومقولات فنان سوري ذي مواقف وآراء معروفة بعد عشر سنوات مما حلّ في بلاده كلامًا مكرورًا غير ذي معنى، لكن ملاحقة طبقة من الفنانين الفاعلين في “الميديا”، والحاضرين في الدفاع عن النظام السوري في كل محضر، تأخذنا باتجاه تقييم الحلول والمخارج التي يجترعونها للثبات على مواقفهم في ظل التطورات التي صارت تمس صنابير المياه في حماماتهم، والوقود في سياراتهم، ولدى عباس النوري بالتحديد مصطلحات مرنة قادرة على تطوير نفسها بهدوء، وقادرة على أن تعطي لنفسها المعنى الجاهز في كل موقع.
المشكلة في سوريا انعدام الجدارة في قيادة المجتمع، المشكلة أيضًا حل “الاتحاد النسائي” ومنظمة “طلائع البعث” (تجدر الإشارة إلى أن المنظمة لم تُحل أصلًا)، من يشكّل الرأي العام؟ ما مطلب المواطن؟ لكل تلك الأسئلة أجوبة لا تستدعي مغادرة البلاد وفق النوري.
يطالب الفنان بالحرية، بكل معانيها، حرية إبداء الرأي بالعلن، وحرية إنشاء قنوات تلفزيونية، ستمكّن من إنشاء سوق درامي سوري محلي، فالتعويل على أسواق الخارج لا يبني فنًا حقيقيًا، حسنًا إذن ما مشكلة الفنان مع من طالبوا بالحرية؟ أوَلم تكن هي المطلب الرئيس والجوهري للجماهير السورية التي انتفضت ضد النظام، الذي لا يملك الجدارة بقيادة المجمع وفق قوله؟
يسقط الفن عن الفنان إن عمل بالسياسة، السياسة لها مختصون، أما الفنان فيعمل في المجال الثقافي الذي لا يجب أن يكون له مشروع آخر سواه، بهذه المقولة ينتقد النوري زملاءه الذين خاضوا في السياسية في الخارج، وينفي وجود تواصل معهم رغم أنه يحترم أن يكون لهم رأيهم السياسي، كما له رأيه أيضًا، فهذا من تبعات الحرية التي يطالب بها، الحرية التي يبدو أن من شروطها أن تكون حرية رسمية، ممنوحة من الدولة بموجب القانون والمؤسسات، فالحرية التي ينعم بها الجمهور على وسائل التواصل الاجتماعي، مجرد حرية شكلية لا قيمة لها، إذ إن هذه الوسائل إنما وُجدت لتخريب الرأي العام لا لتشكيله، هي مجرد قنوات طارئة أهدافها تشويهية، لا تغني عن وسائل الإعلام التقليدية التي تتيح التعبير عن الرأي.
لكن للأسف لا يمكن لقناة إعلامية الوجود في سوريا خارج نطاق “الدبكة”، وفق تعبير الفنان، ووفق ذلك أيضًا على الجمهور فقط الانتظار ريثما تتيح المؤسسة الرسمية الحرية قانونًا، والخضوع للعذابات اليومية والصبر وعدم مغادرة البلاد التي تنعم بنعمة الأمان الذي ما زال موجودًا في سوريا وبشهادة عباس النوري.