إبراهيم العلوش
تعاود أزمة اللاجئين السوريين الظهور الإعلامي مع تفاقم الأوضاع في الداخل السوري، ومع تصريحات اليمين المتطرف في لبنان، وفي تركيا، وفي أوروبا، التي تنتهك إنسانية اللاجئ وتتعامل معه بشكل عنصري.
ما أعاد النقاش حول اللاجئين السوريين هي تصريحات منسوبة لغبطة البطريرك اللبناني بشارة الراعي، أدلى بها لإذاعة الفاتيكان في العاصمة الهنغارية بودابست، الأسبوع الماضي، ودعا فيها إلى ترحيل اللاجئين السوريين من لبنان قسرًا.
وهذه ليست دعوة جديدة من حلفاء “حزب الله” الذين اشتركوا في جريمة التهجير السوري، سواء عسكريًا (مثل الحزب) أو سياسيًا عبر التغاضي عن انتهاكات النظام بحق الشعب السوري ورفض إدانتها، مثل عون وأنصاره.
البطريرك بشارة الراعي خلف البطريرك نصر الله صفير في منصبه عبر صفقة تحالف ميشال عون مع “حزب الله”، التي زُيّنت بعقد مؤتمرات تأييد لبشار الأسد تحت شعار مؤتمر تحالف الأقليات، الذي موّلته إيران، ولعبت البراعة الإعلامية العونية في تزيينه بمخاطبة الغرب بمزاعم حماية مسيحيي الشرق، وتخويفه من اللاجئين السوريين الفارين من الموت.
وشتان بين رجلَي الدين، فالبطريرك صفير رحمه الله كان يعي جرائم النظام الأسدي، وحاول إبعاد الكنيسة المارونية ما أمكن عن ممارسات نظام الأسد وعصاباته المافيوية، في حين أن الراعي تخلى عن شعور الرحمة باللاجئ المعذّب، ودعا إلى إعادة قذفه في جحيم التعذيب الأسدي، خوفًا من أوهام توطين اللاجئين، وهذا ما يرفضه اللاجئون، أو ترويجًا لبروباغندا رفع نسبة وجود المسلمين في لبنان، وكأن مشروعه لبناء الأوطان سيبقى إلى الأبد على شكل طوائف منغلقة ومتحجرة ومتحاربة إلى يوم القيامة.
يتناسى غبطة البطريرك أن أكبر الاستثمارات اللبنانية كانت في سوريا خلال العقود الماضية، وستكون هي الأكبر فور انتهاء الحرب، ومن المتوقع أن تبقى على رأس الاستثمارات العالمية في سوريا لإعادة بناء ما دمره نظام الأسد وأعوانه.
وكون هذا الموقف العنصري يكرره الساسة العونيون، وأبرزهم جبران باسيل شريك الرئيس عون ونسيبه، وتحت ضغط “حزب الله”، كانت المطالبة بتسليم اللاجئين السوريين للمخابرات الأسدية تتكرر كل يوم. والسوريون بنظر هذه الحملات الإعلامية هم مجرد كتل من الطائفة السنية، ويتم إسقاط أنهم بشر متمايزون قبل كل شيء، ولهم مشاعر وعندهم أطفال، ويتألمون من التعذيب، ويخافون من القصف، ويحبّون أن يكون وطنهم حرًا، ولم يهجروه حبًا بالهجرة، فقد خسروا أملاكهم وقراهم وصاروا يعملون في عجلة الاقتصاد اللبناني بأبخس الأسعار، وأن الأمم المتحدة والدول المانحة تضخ مئات ملايين الدولارات سنويًا في الاقتصاد اللبناني عبر مساعدة اللاجئين السوريين، كما أن حياة اللجوء الرثة لن تطيب للسوريين فور الوصول إلى حل إنساني ينصف هؤلاء الضحايا.
وتناولت صحيفة “عنب بلدي” في عدد سابق، تحت عنوان “اللاجئون.. سلاح الشرق الفتّاك”، موضوع متاجرة الدول بقضية اللاجئين، واستعمالهما للابتزاز السياسي ولكسب المال، والانتقام بين الدول المتجاورة وبشكل موسع وشائق. ولكن أن تصل المتاجرة باللاجئين إلى رجال الدين المتصفين بالحكمة والهدوء والرحمة، فهذا أمر جديد في تفاعلات إنتاج القيم ضمن المنطقة العربية الغارقة في الاستبداد الفردي والجماعي.
كان الأجدر بغبطة البطريرك أن يتمسك بروح الرحمة ويطالب حليفه “حزب الله” بالكفّ عن ارتكاب الجرائم بحق السوريين، وأن يطالب بإخراجه من سوريا قسرًا من أجل أن يعود اللاجئون إلى وطنهم، الذي اغتصبه الإيرانيون داعمو “حزب الله”.
ولكن العقول العنصرية التي لا تعترف بالآخر كلاجئ أو كعامل، لن يقيّض لها أن تبني دولًا قوية ومنيعة، ولن تقوم لها قائمة أخلاقية أو احترام، ما دامت تستهتر بالبشر وبحقهم في الحياة الآمنة، وترفض الاعتراف بمشاركاتهم الإبداعية في بناء الحياة الحرة، وليس حياة الطوائف المنغلقة أو القبائل المتحجرة الأنساب والأساطير.
اللاجئ السوري له وطن على مقربة من لبنان، ومن الأردن، ومن تركيا، ومن دول الخليج، وهو يرغب بالعودة إليه ولا يقبل أن تُنتهك كرامته من جديد، وهو ليس إنسانًا هامشيًا حتى يستمر بقبول الذل، فالسوري متعلم ويعمل بجد، ومبدع، وتكوّنت لديه قناعات جديدة بعد مأساته الكبيرة، فهو لم يعد مقتنعًا بأساطير الشرق المبنيّة على العنصرية الطائفية أو العنصرية العرقيّة، فمأساة السوريين ستعيد صناعتهم كبشر، وقد تجعلهم على رأس المنطقة العربية التي يصرُّ حكّامها ورجال دينها على وضع رؤوسهم في الرمال!
هذه الطوائف المنغلقة والمتكدسة فوق أوهامها لن تنجح في معاندة الحياة، والتطور، والعولمة التي تعصف بنا كل يوم، ولن يبقى صامدًا أمام هذه السيول الرقمية إلا من كان إنسانًا أصيلًا مملوءًا بالرحمة وخالي القلب من الأحقاد العنصرية.