الرقة – حسام العمر
لم يستطع عبد الله العلي (31 عامًا)، من سكان حي الانتفاضة بمدينة الرقة، الانخراط في المجتمع ودخول سوق العمل، فقد فشلت جميع محاولاته، ليبقى عاطلًا عن العمل حتى وقت إعداد هذا التقرير.
أنهى عبد الله خدمته الإلزامية العام الماضي لدى قوات النظام السوري، لكنه لم ينجح بتجاوز تلك المرحلة حتى الآن، بسبب عوائق نفسية واجتماعية، تمنعه من الاندماج بالمجتمع المحلي في الرقة.
يواجه مقاتلون وعناصر سابقون في قوات النظام السوري، أنهوا خدمتهم حديثًا، عوائق عدة تمنعهم من تجاوز مرحلة الخدمة العسكرية، التي زرعت في تصرفاتهم وطباعهم عادات تشكّل حاجزًا أمام اندماجهم بالسكان وتقبّل المجتمع لهم.
وتعد مسألة إعادة اندماج المقاتلين السابقين الذين شاركوا في النزاع بالحياة المدنية، أحد أهم التحديات التي يواجهها المجتمع والمؤسسات في الدولة والمنظمات المعنية في مرحلة ما بعد النزاع.
ويكمن هذا التحدي في مقدرة المؤسسات على إعادة تأهيل المقاتلين السابقين، ومساعدتهم للانخراط في حياة اجتماعية مستقرة، واعتبار المقاتل السابق فردًا منتجًا من الناحية الاقتصادية، بما يؤمّن مصدر رزق له، ويمنع عودته إلى حمل السلاح وارتكاب المزيد من الانتهاكات.
تشمل عملية إعادة الاندماج كل مقاتل سابق، حتى إذا قام بدور مباشر في العمليات القتالية لمصلحة أحد أطراف النزاع المختلفة.
ويجب الأخذ بعين الاعتبار مع كل عملية إعادة إدماج المقاتلين السابقين في الحياة المدنية، إصلاح المؤسسات الأمنية والعسكرية في سوريا، وتهيئة الظروف المناسبة من خلال محاسبة المسؤولين من أولئك الذين أعطوا الأوامر بالقتال وارتكاب الانتهاكات.
خارج خطة التوظيف
قال عبد الله العلي لعنب بلدي، إنه كثيرًا ما يتعرض للنقد والتوبيخ من محيطه الاجتماعي في المدينة، لمتابعته خدمته الإلزامية ضمن صفوف قوات النظام حتى نهايتها، ويتكرر دائمًا ذات السؤال له من قبل أغلبية الناس الذين يصادفونه، “دم كم واحد برقبتك؟”.
سليم الصغيّر (33 عامًا)، من سكان مدينة الرقة وعنصر سابق في قوات النظام، حاول التقدم عدة مرات للحصول على وظيفة ضمن مؤسسات “الإدارة الذاتية” العاملة في المدينة، لكن طلبه رُفض من قبل “مكتب التشغيل” المعني بتوظيف وتشغيل الموظفين.
يحمل سليم شهادة من معهد تجاري، وعمل طويلًا في “الشؤون الإدارية” ضمن قوات النظام، لكن بمجرد سؤال “مكتب التشغيل” في الرقة عن مجال خبرته وذكر اسم “الجيش السوري”، يطلب منه الموظف سحب أوراقه ومغادرة المكتب لعدم وجود شاغر، على حد قوله.
“ليسوا أهلًا للثقة”
تتخوّف “الإدارة الذاتية” من عناصر قوات النظام السابقين، على الرغم من تسليمهم السلاح وإنهاء خدمتهم رسميًا، لكنها “لا ترغب بوجودهم ضمن مؤسساتها لأنهم ليسوا أهلًا للثقة”، وفق ما قاله عضو في “مكتب التشغيل” داخل “مجلس الرقة المدني” لعنب بلدي.
وأضاف عضو “مكتب التشغيل”، الذي تحفظ على ذكر اسمه كونه لا يملك تصريحًا بالتحدث إلى الإعلام، أن “النظام السوري لا يريد الاستقرار للمناطق التي تسيطر عليها (الإدارة الذاتية)، ولا يدخر جهدًا في محاولات إفشالنا، ومن الممكن أن يستخدم عناصره السابقين لمثل هذه الأغراض”.
ولا توجد إحصائيات دقيقة تتحدث عن أرقام المسرّحين من قوات النظام السوري في الرقة، أو في المناطق التي تديرها “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا، والذين “غالبًا ما يدخلون المنطقة خلسة أو عبر معابر التهريب خشية اعتقالهم” من قبل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وفق ما قاله عنصر في “قوى الأمن الداخلي” (أسايش) التي تمثل الذراع الأمنية لـ”قسد”.
وتتعامل الأجهزة الأمنية التابعة لـ”قسد” بحذر مع عناصر قوات النظام الذين يدخلون مناطقها، وتراقب تحركاتهم خوفًا من ارتكابهم أو تسببهم بحوادث تسهم في إخلال الأمن، وفق العنصر في “أسايش” (الذي تحفظ على ذكر اسمه لأسباب أمنية).
“العسكرية” ضمن العائلة
حسن الكرمو (40 عامًا)، أخ لعنصر مسرّح حديثًا من قوات النظام السوري، قال لعنب بلدي، إن أخاه لا يزال يتعامل مع إخوته وأبنائهم، على أنه رجل سلطة أو ابن “العسكرية”.
وتحدث حسن عن مشادات كلامية تكررت كثيرًا بينه وبين أخيه، بسبب سلوكه العنيف مع إخوته وأبنائهم الصغار، ومحاولة “المسرّح” تنفيذ عقوبات وسلوكيات عسكرية بحق أفراد العائلة.
الاختصاصي النفسي محسن السليمان، قال لعنب بلدي، إن الفترة الطويلة التي قضاها عناصر قوات النظام السوري في الخدمة، رسّخت طباعًا وسلوكيات نفسية يصعب على فترة زمنية قصيرة محوها.
وتحدث الاختصاصي النفسي عن ضرورة خضوع هؤلاء المسرّحين لجلسات إرشاد أو علاج نفسي، تساعدهم على تجاوز تلك المرحلة، إن كانوا جادين فعلًا في الاندماج بالحياة الجديدة ودخول مرحلة يمكن أن تمحو ما رسخته سابقتها.
وبحسب الاختصاصي النفسي، فإن الفترة التي يحتاج إليها المقاتل السابق هي بين الثلاثة والستة أشهر، يخضع خلالها لإرشادات إعادة سيكولوجية النفس البشرية إلى طبيعتها السليمة، ونبذ الأساليب والتصرفات السلطوية.
الخطوط النفسية والاجتماعية بين المقاتل السابق ومجتمعه تكون غير واضحة طوال مشاركته في العمليات القتالية، وفق الاختصاصي النفسي، إذ إنه فقد شبكة التواصل الاجتماعي طوال ابتعاده عن الحياة المدنية، ولم يعرف سوى السلاح والدم والأوامر والسلطة، وعلى المجتمع أن يتصدى لمشكلات الاستهداف الفردي ضد من يرغب بشكل جدي بالعودة والاندماج مع أهله وسكان قريته أو مدينته.
مثل هذه المشكلات تؤدي إلى شعور المقاتل السابق بالتهميش والعوز المادي، خصوصًا في حال لمس عدم تقبّل المجتمع لاحتضانه من جديد، وعدم اعتباره فاعلًا في عملية الإنتاج الاقتصادي والتنموي في المجتمع، فيخلق هذا الرفض مساحة للتفكير بالعودة إلى حمل السلاح، ما يسبب بتهديد السلم الأهلي والأمن المجتمعي.
تحسين وصول المقاتلين السابقين إلى العدالة والخدمات والفرص الاجتماعية، هو ضمن مهام المنظمات الوطنية والدولية، وكونها وطنية لا يعني أنها مملوكة للحكومة.
لذلك، تنخرط منظمات الأمم المتحدة أكثر فأكثر مع الجماعات المسلحة في بيئات مهام معقدة، إذ صار موظفو نزع السلاح والتسريح وإعادة الاندماج والحد من العنف المجتمعي، أول موظفي الأمم المتحدة المنتشرين على الأرض مع تفويض وخبرة للتعامل مباشرة مع المقاتلين السابقين.
ويضع المجتمع بقاء أفراده وسبل عيشه وكرامته ضمن أمنه المجتمعي، من خلال السلم والعدالة والتنمية في الأجل الطويل، بعد عيشه أزمات جماعية اقتصادية وأمنية ومعيشية، لكن عدم الإسهام بذلك يؤدي إلى إحباط المجتمع بترك تلك التطلعات دون تحقيقها، ما ينتج أزمات أوسع نطاقًا وأكثر استعصاء على الحل.