تركّز بعدالتها على المتهمين دون حفظ ذاكرة الضحايا
“كوبلنز”.. تفسير المحكمة يهدد بضياع وثائق تاريخية
عنب بلدي – صالح ملص
في آب 2020، حكمت المحكمة الدستورية الألمانية في كوبلنز بمنح الصحفيين المعتمَدين الناطقين بالعربية حق الوصول إلى الترجمة الفورية باللغة العربية لجلسات المحاكمة، إذ إن أجهزة استقبال الترجمة الفورية تُركت دون استخدام، في حين لم يستطع الجمهور السوري متابعة ما يُقال في المحاكمة.
حينها طُرح نفس السؤال فيما يتعلق بغياب توثيق جلسات محاكمة “كوبلنز”، لأولئك الذين لا يستطيعون السفر إلى مدينة كوبلنز غربي ألمانيا، من خلال إتاحة المحاضر الرسمية أو بثّ الجلسات.
وفي تموز الماضي، طالبت 23 شخصية ألمانية قانونية ومؤسسات أكاديمية ومنظمات حقوقية مستقلة، بضرورة التسجيل الصوتي لجلسات محكمة “كوبلنز”.
إذ لا يقتصر دور التوثيق على تسهيل تحقيق محاسبة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، بل يحفظ إفادات ضحايا التعذيب داخل السجون من أي تلفيق أو تعدّد الروايات المتضاربة.
رفض توثيق التسجيلات
على الرغم من أهمية محاكمة “كوبلنز”، بوصفها أول محاكمة في العالم للتعذيب الذي مارسته الأجهزة الأمنية في سوريا، فإن محكمة “كوبلنز” رفضت، في 3 من أيلول الحالي، إنشاء تسجيلات صوتية للمرحلة الأخيرة من جلسات الاستماع لمحاكمة رئيس قسم التحقيق في الفرع “251” أنور رسلان، التابع للمخابرات السورية بدمشق (المعروف أيضًا باسم فرع “الخطيب” بسبب موقعه).
وبحسب ما قاله الصحفي السوري والمدافع عن حقوق الإنسان منصور العمري، في حديث إلى عنب بلدي، فإن حجة المحكمة برفضها إنشاء التسجيلات الصوتية، هي أن محاكمة “كوبلنز” لديها أهمية بارزة للتاريخ المعاصر للمجتمع المدني في سوريا، إلا أنه لا يمكن استنتاج أهمية بارزة للمحاكمة بالنسبة لألمانيا، كأساس قانوني لتأمين التسجيلات الصوتية بموجب قانون المحاكم الألماني.
وتتضمن لائحة الاتهام لرسلان، جرائم التعذيب والحرمان الشديد من الحرية والعنف الجنسي والقتل كجرائم ضد الإنسانية، والضلوع في جريمة قتل بموجب القانون الجنائي الألماني.
واعتبر العمري أن رفض المحكمة إتاحة التسجيلات الصوتية لجلسات الاستماع لإفادة الشهود وضحايا التعذيب، هو “أحد الجوانب السلبية للولاية القضائية العالمية في ألمانيا، وحرمان السوريين من أرشيف رسمي للمحاكمة”.
وتعد “الولاية القضائية العالمية” إحدى الأدوات الأساسية لضمان منع وقوع انتهاكات القانون الدولي الإنساني، والمعاقبة عليها في حال ارتكابها من خلال فرض العقوبات الجنائية.
وتنص اتفاقيات جنيف لعام 1949 على أن الدول الأطراف ملزمة بتعقّب المشتبه بارتكابهم مخالفات جسيمة تدخل في نطاق جرائم حرب والجرائم ضد الإنسانية، بغض النظر عن جنسيتهم ومكان ارتكاب الجريمة المزعومة، وتقديمهم إلى محاكمها أو تسليمهم إلى دولة أخرى طرف في الاتفاقيات لمحاكمتهم.
وسبق أن كتب الصحفي العمري، الذي يحمل درجة الماجستير بالقانون في العدالة الانتقالية، في عنب بلدي، أن المحكمة لم توثّق المحاكمة بشكل كامل، أي أنه لا يوجد أرشيف حرفي لكل ما يدور في المحكمة، وهي فرصة ضائعة ويجب العمل لإصلاحها.
واعتبر العمري أن مثل هذه الوثائق ستكون ذات قيمة عالية في أي عملية انتقالية بالنسبة للسوريين، لفهم ومعالجة آلة إبادة الدولة.
كما يمكن أيضًا استخدام هذه الوثائق الرسمية في الإجراءات القانونية بالمحاكم المحلية في سوريا بمجرد انتهاء الحرب، أو في المحاكم الدولية المستقبلية، واعتبر أن مثل هذا الأرشيف له قيمة أكاديمية عالية ليس فقط بالنسبة للسوريين، ولكن للدول الأخرى، لأنه يوفر مصدرًا فريدًا للمعلومات للعلماء والمؤرخين والباحثين الآخرين في ممارسات إبادة الدولة.
تفسير ضيّق للقانون
بموجب قانون المحاكم الألماني في مادته رقم “169”، فإن “التسجيلات الصوتية لجلسات الاستماع، بما في ذلك النطق بالحكم، قد تصرح بها المحكمة لأغراض أكاديمية أو تاريخية إذا كانت الإجراءات ذات الصلة ذات أهمية قصوى للتاريخ المعاصر لجمهورية ألمانيا الاتحادية”، مع وجود عدة شروط، وإذا ما كانت هذه التسجيلات ذات قيمة مهمة، و”لم تقبل المحفوظات الاتحادية، أو أرشيف الأراضي المعني” حفظ التسجيلات، فيتعيّن على المحكمة حذفها وفق البند الثاني من المادة “169“.
استند طلب إتاحة التسجيلات الصوتية لجلسات الاستماع في محاكمة “كوبلنز” إلى هذه المادة، باعتقاد الشخصيات والمنظمات القائمة على الطلب أن هذه المحاكمة مهمة لألمانيا كما هي بالنسبة لسوريا، إلا أن قرار المحكمة كان مناقضًا لذلك الاعتقاد.
إلا أن هذا القرار صدر بناء على “تفسير ضيّق” للقانون الألماني، وفق ما تراه المحامية السورية والزميلة الباحثة ببرنامج الجرائم الدولية والمحاسبة في “المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان” جمانة سيف، في حديث إلى عنب بلدي.
إذ إن المدعي العام في المحكمة فرض شروطًا في وصف الجريمة كي ترقى لمستوى الأهمية القصوى لألمانيا، منها أن تكون الجريمة كجريمة حرب أو جرائم ضد الإنسانية، بحسب القانون الألماني، والجرائم التي اُتهم بها رسلان تدخل ضمن دائرة تلك الجرائم، وفق سيف.
كما أن المحاكمة تستند إلى “الولاية القضائية العالمية”، التي تعتمد آلية تطبيقها على الجرائم التي تنتهك القانون الدولي الإنساني، وبالتالي فإن محاكمة “كوبلنز” هي إجراء جنائي للوصول إلى عدالة تهمّ كل العالم، وليست مقتصرة على المجتمع الذي ينتمي إليه ضحايا جرائم الانتهاكات التي تنظر إليها المحكمة، بحسب ما تعتقده المحامية سيف.
وتسجيل إفادات الضحايا من شأنه أن يعزز من موقفهم، الأمر الذي لم تأخذه المحكمة بعين الاعتبار، وفق سيف.
وفي الوقت الذي تحظر فيه التسجيلات الصوتية لجلسات الاستماع في المحاكمة، يعد الوصول إليها من قبل الجمهور السوري أمرًا صعبًا، وهم يعتمدون على التقارير الصادرة باللغة العربية من قبل الصحافة أو المراكز الحقوقية أو “البودكاست“ المخصص لتغطية المحاكمة.
الاقتراب من الحكم النهائي
في 24 من شباط الماضي، أصدرت المحكمة حكمها الأول في قضية التعذيب داخل الفرع “251” ضد المتهم الثاني في المحاكمة، وهو إياد الغريب، المسؤول الأدنى رتبة من العقيد أنور رسلان، في إدارة مخابرات فرع “الخطيب” بدمشق.
وحكم قاضي المحكمة على الغريب بالإدانة، والسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة بتهمة “جرائم ضد الإنسانية”.
واستند المحققون بصورة خاصة إلى إفادات ضحايا عانوا من شروط اعتقال “لا إنسانية ومذلة”، بحسب القضاء، وتمكنوا من الوصول إلى أوروبا.
بينما طالب الدفاع بتبرئة المتهم، بحجة أنه كان من الممكن قتل الغريب لو لم يتبع أوامر رؤسائه، ولفت إلى أنه لم ينفذ أوامر رئيسه بإطلاق النار على المعتقلين.
ولأهمية المحاكمة، أخذ الحكم على الغريب ردود فعل دولية، إذ وصفت الخارجية البريطانية الحكم بأنه “تاريخي”، وأثنت الخارجية الأمريكية على ألمانيا لاتخاذها هذه الخطوة.
ورحّب وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، بالحكم على الغريب، واعتبر أن للحكم “معنى رمزيًا لكثير من الناس، وليس فقط سوريا”.
وقالت المحامية جمانة سيف، إن “الحكم على رسلان قد يكون في نهاية تشرين الأول المقبل، ووفق القانون وحسب ثبوت الأدلة يمكن أن يصل الحكم الى المؤبد”.
يمثل حفظ محكمة “كوبلنز” لإفادات الشهود، في حال كانت التسجيلات الصوتية للجلسات متاحة، شكلًا من أشكال الإفصاح عن حقيقة الانتهاكات التي حدثت في سوريا، بقوة القانون والقضاء، يثبت من خلاله صدق سردية سنوات من التعذيب داخل سجون النظام السوري، ويسمح للأجيال القادمة بسماع أصوات الناجين، واحترام ما عانوه من تعذيب وفهم أوجاعهم لاستعادة كرامة المجتمع.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :