فلسطين الصغرى.. الحقيقة الكاملة

  • 2021/09/26
  • 11:56 ص

نبيل محمد

فئتان عمريتان يمكنهما اختصار المشهد بجمل بسيطة وسريعة، بفطرية وحكمة إنسانية، فئة لم تجرب بعد شيئًا في الحياة وهي الأطفال، وفئة تختتم تجاربها بالمأساة الكبرى وهي الكبار في السن، وللكاميرا أن تتنقل بين وجه طفل ووجه مسنّ، وتصوّر خلال انتقالاتها شوارع مخيم “اليرموك”، لنعرف أن “رائحة الخبز في الفجر” التي تستحق الحياة في فلسطين الكبرى، لا تستحقها هنا في فلسطين الصغرى حيث لا خبز خلال سنوات حصار النظام السوري لها، ولا رائحة سوى للموت. هنا سنوات الحصار حيث عاش أولئك المسنّون الذين خرجوا من بلادهم لاجئين قبل سنين طويلة ما لم يعيشوه سابقًا. كل أعدائهم (وهم كثر) لم يصلوا إلى هذا المستوى الاستثنائي من الوحشية.

“فلسطين الصغرى.. يوميات الحصار”، فيلم لعبد الله الخطيب، عُرض مؤخرًا في مهرجان “كان” السينمائي، يفرد لوجوه المحاصرين وجملهم المشتتة، ومشيهم اليومي بين الشوارع المدمرة بحثًا عن نبتة صالحة للأكل، المساحة كاملة لحكاية قصة أكثر من 40 ألف لاجئ فلسطيني يقطنون في أكبر مخيم للشتات الفلسطيني تحت حصار أطبقه عليهم نظام الأسد عدة مرات كان أشدها ما بين شهر تموز 2013 و شهر شباط 2014، ويعطي اللقطات القريبة و”البورتريهات” أولوية تدركها عين مصوّر محترف تعرف اللغة والمعاني القاسية، التي يمكن أن يتركها مشهد تنتقل فيه العدسة من أقدام شخصية حفرت السنون بجلدها وأكل الحصار من معالمها، إلى الجسد المنهك، وصولًا إلى المفاجأة حيث الوجه لطفل صغير، وصورة دراجة هوائية مهترئة، يقودها شاب فقد رجْلَه، واحتشاد السكان أمام طهاة الحساء المكوّن من الماء والبهارات، الغذاء الأشهر في مختلف المناطق السورية التي حاصرها الأسد.

ما يميّز الفيلم عن التقارير المصوّرة القليلة التي كانت تخرج من “اليرموك” ومن مناطق أخرى تعرّضت للحصار، وحتى عن عشرات المواد الوثائقية التي حكت تجارب الحصار في مناطق من سوريا، أنه أعطى المنطوق السائد والكلمات المكررة التي يقولها المحاصرون معناها الكامل الذي يجعلك تقرُّ بمصداقيتها كليًا، كالمقولات التي تتردد على لسان كثير من المحاصرين، والتي تحسد القتيل تحت البرميل المتفجّر، وتتمنى الموت بالصواريخ بدلًا من الجوع. كان كل من تمنى ذلك بالفيلم، يتمنّاه قاصدًا، يندر أن تجد أحدًا يخاف من البراميل وصوت الرصاص، هناك من يبتسم لذلك بالفعل.

لا يغفل الفيلم طريقًا آخر إلى الحياة، الأمل الذي يولد من مصادفة عدم الموت حتى الآن، وعلى الرغم من كل هذه الظروف، فالأحياء الذين يعشقون المشي كونه الدليل الأول على استمرار القدرة على ممارسة العيش، يمكنهم أن يبتسموا في وجوه بعضهم حينًا، أن يقولوا نكتة، أن يتزوجوا ويعزفوا بيانو ويغنوا بشكل جماعي. يسكن هذا الأمل في وجه سمح لممرضة، تشرح لك فعليًا المعنى الحقيقي لمصطلح “ملائكة الرحمة”، لمسة ملاك تلك التي كانت تلمسها لأصابع المسنّات الدانيات من موتهن، ونثر حبات السكر في أكفهن، وربط جهاز قياس ضغط الدم، ونكز إبرة قياس نسبة السكر فيه. ويسكن الأمل ذاته بلسان مدرّس اللغة الإنجليزية الذي يوجه الرسائل والخطابات في التجمعات والمظاهرات باللغة الإنجليزية التي يجهد في توسيع مصطلحاتها لتعبّر عمّا يريد قوله.

لم يهادن الفيلم ولم يحِد قيد أنملة عن رسالته بكل وضوح، مصورة ومقروءة ومكتوبة، سمّى المجرم الأساسي وكرره بين مشهد وآخر، أقر بتحميله المسؤولية الكاملة عن الجريمة، لم يختبئ خلف ستار التركيز على وجود أطراف أخرى تمارس الجريمة، ليقطف في الظل رضا الهيئات الداعمة ومنصات المهرجانات، كان نظيفًا ومطلقًا في قول ما حدث، وأن النظام السوري جوّع المخيم ثم تركه لتنظيم “الدولة الإسلامية”، ثم للمتشددين عبورهم نحو مناطق أخرى. وهي الحقيقة.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي