عنب بلدي – لمى راجح | إبراهيم حسين | علي عيد
تحرير وإشراف: علي عيد
حاول علاء (28 عامًا) تصديق شهادته الثانوية في مركز “خدمة المواطن”، التابع لـ”الحكومة السورية المؤقتة”، للعودة إلى التخصص الجامعي الذي حُرم منه، بعدما كان طالبًا في جامعة “حلب” قبل أن يضطر للجوء إلى تركيا، فأرسل أوراقه مرّتين عبر البريد وكان يضع في كل مرة 55 ليرة تركية داخل مغلّف مع الوثائق، إلا أنها كانت تعود بلا تصديق ودون المال.
يقول علاء الذي يعمل اليوم بائعًا في محل صغير بمدينة غازي عينتاب، جنوبي تركيا، إنه اضطر قبل نحو عام للذهاب إلى مركز “خدمة المواطن” ليجد الباب موصدًا أمام مجموعة من الشابات والشبان وهو بينهم، وإن موظفة خرجت لتصرفهم بعبارة “ما منستقبل حدا بسبب (كورونا)”، لكنها لم تبلغهم بأي صيغة يمكن من خلالها حلّ المشكلة، وبعدها خرج مدير المركز مكررًا رفض استقبال أي سؤال أو تقديم استشارة لنفس السبب.
حاول علاء، حسب شهادته لمعدي التحقيق، شرح المعاناة في مداخلة ضمن برنامج لإحدى المحطات التلفزيونية، إلا أنه تفاجأ بمن يتصل به مهددًا بعبارة “كيف بتتجرأ وبتحكي عن حكومة (الائتلاف) وعن مواضيع أكبر منك”، وتكرر الاتصال مرّة ثانية مع عبارة “إذا بترجع بتحكي هاد الكلام رح تتعرض لمشاكل”، وفي المرتين لم يظهر رقم المتصل، حسب علاء، وهو ما يتعذر على فريق التحقيق التثبّت منه.
سبعة بالألف تنذر بكارثة
كثيرون مثل علاء جاؤوا من مناطق مختلفة داخل سوريا حاملين تركة الحرب التي رمت بهم خارج الجامعات، وكان حلمهم أن يكملوا تعليمهم مثل أي شخص يعيش حياة طبيعية، وزاد من معاناتهم ضعف المؤسسات المساندة.
ومنذ عام 2011، غادر ملايين السوريين بيوتهم هربًا من جحيم الموت، إمّا نازحين إلى مخيمات ومناطق أخرى داخل البلاد، وإما لاجئين في دول بعيدة أو مجاورة مثل تركيا التي استقبلت حتى نهاية آذار الماضي نحو 3.7 مليون سوري مسجلين تحت الحماية المؤقتة بينهم 57.502 شخص يقيمون في المخيمات، وفق إحصائيات المديرية العامة للهجرة التركية.
ويقول أحد العاملين السوريين بقطاع التعليم العالي في تركيا، فضّل عدم ذكر اسمه، إن ثمة مؤشرات سلبية تنذر بكارثة على مستوى الكوادر المتخصصة وحملة الشهادات الجامعية، وهو ما يهدد مستقبل استعادة التنمية وعملية البناء والإعمار في حال عودة اللاجئين، إذ تشير الأرقام الصادرة عن جهات رسمية إلى أن عدد الطلاب الجامعيين السوريين في تركيا لا يزيد كثيرًا على 27 ألف طالب للعام الدراسي 2019- 2020، ما يعني أن سبعة فقط من بين كل ألف سوري في تركيا يتلقون التعليم الجامعي، وهذا رقم أقل بكثير من المعدل في البلد، إذ تشير أرقام نقلتها وكالة الأنباء التركية عن رئيس الدولة، ونُشرت في 12 من شباط الماضي، إلى أن من بين كل ثمانية أتراك يوجد شخص يتابع تحصيله الجامعي، وهو معدّل يفوق معدل نسبة الجامعيين السوريين بالنسبة لعددهم في تركيا بنحو 18 ضعفًا.
أنهت حلم الكثيرين
يشكّل تصديق (توثيق) الشهادات العلمية للسوريين في تركيا واحدًا من الجوانب الأكثر إلحاحًا، خاصة شهادات الثانوية الصادرة من سوريا للراغبين في إكمال تعليمهم الجامعي، وهناك الآلاف ممن أرسلوا وثائقهم للتصديق، إلا أن التعامل كان صادمًا، حسب شهود التقى بهم معدّو التحقيق، فالكثير من الشهادات عادت إلى أصحابها دون تصديق، ورغم تكرار المحاولة وصحّة الوثائق، ضاعت الفرصة كما حصل مع “ع. ر.” (35 عامًا)، طلب عدم الإفصاح عن هويته لأسباب أمنية، الذي يقول في شهادته إنه حمل أوراقه بيديه إلى مركز “خدمة المواطن”، فأخبروه أن الشهادة مزوّرة، واضطر لدفع المال ليحصل على خمس نسخ من شهادته الثانوية من مدينة دير الزور التي هرب منها ليصبح لاجئًا في غازي عينتاب، إلا أن جهده انتهى برفض الموظف تصديقها مرّة أخرى طالبًا منه الشهادة “الكرتونية”، علمًا أنه لم يخبره مسبقًا بأن المطلوب هو النسخة “الكرتونية”، فيئس من الحصول على التصديقات المطلوبة بعد عام ونصف قضاها منتظرًا دون فائدة، متجاهلًا حلم الدخول إلى الجامعة.
المزوّرة دقّت الناقوسيؤكد مسؤول تركي عمل في خدمة تصديق الشهادات، طلب عدم ذكر اسمه، أن الفترة التي سبقت 2016 شهدت تقديم كثير من السوريين شهادات مزوّرة تم اكتشافها من خلال التدقيق في الأختام، الأمر الذي استدعى التنسيق مع دائرة الهجرة التركية. وأشار إلى أن الأمور بدأت تخرج عن السيطرة، ما دفع الجهات المتخصصة إلى إلغاء قيد بعض الطلاب، وبعد ذلك ظهرت “الحكومة المؤقتة” (تتبع لائتلاف قوى المعارضة السورية)، التي أبرمت اتفاقًا رسميًا مع مديرية التربية التركية (في غازي عينتاب)، يقضي برفض قبول الأوراق التي لا تحمل أختام “الحكومة المؤقتة”، وجرى تعميم القرار على جميع دوائر التربية التركية. وبعد قرار “الائتلاف الوطني لقوى المعارضة” إحداثها بنحو ثلاث سنوات وبترحيب تركي، أحدثت “الحكومة المؤقتة” مركز “خدمة المواطن” نهاية آب 2016، بهدف تقديم الخدمات للسوريين الموجودين في كل الولايات التركية، بقصد تسهيل الأوضاع وخاصة للطلاب السوريين، في مكتبه بمدينة غازي عينتاب. |
حوكمة تنتهي بالفشل
يقول المحامي يوسف النيرباني، وهو أول من أوكلت إليه مهمة إدارة مركز “خدمة المواطن” نهاية آب 2016، إن المركز كان يصدّق شهادات الثانوية (البكالوريا) الصادرة عن “الحكومة المؤقتة”، وتلك الصادرة عن حكومة النظام السوري، إذ تمتلك حكومة المعارضة معلومات على أقراص إلكترونية عن الشهادات الصادرة عنها، تم الحصول عليها من مديريات التربية في المناطق التي تم تحريرها (خرجت عن سيطرة النظام) قبل عام 2015، وكان يتم العمل بشكل مجاني وبطريقة غير منظمة.
وبعد تغيير الحكومة في تموز 2016، أصبح المكتب تابعًا للأمانة العامة لـ”الحكومة السورية المؤقتة”.
يوسف النيرباني لم يصمد، حسب شهادته، سوى أربعة أشهر، حيث دخل في خلاف مع رئيس الحكومة بسبب تدخلاته المباشرة في عمل المركز وعرقلة تقديم الخدمات، وعلى إثرها ترك العمل مطلع 2017.
وكان قبلها اقترح هيكلية للمركز وقائمة بالخدمات ومنها تصديق الشهادات، وجرى اعتمادها بقرار من مجلس الوزراء.
الحكومة تلحس ختمها
أن تصدّق جهة على شهادة ثم تلغي الختم باستخدام المصححّ الأبيض (Corrector)، تلك نادرة حصلت بشهادة طالب للتصديق مقيم قرب اسطنبول.
يقول الشاهد، الذي أُخفيت هويته لأسباب أمنية، إنه أرسل شهادته مع أربعة آخرين للتصديق عبر أحد المكاتب الوسيطة، إلا أن الظرف الذي وُضعت فيه الشهادة عاد وقد تم تصديقها ثم تم إلغاء تصديق ثلاث من الشهادات بالمصحّح الأبيض، وإرفاق ورقة كُتب عليها “يجب إرسالها من نفس الشخص” (دون وسيط).
مستغربًا يروي الشاهد قصته بعد أن تكلّف مبلغًا بنحو 700 دولار لإحضار نسخة أصلية عن شهادته من داخل سوريا، وهو خريج معهد متوسط، هرب إلى تركيا قادمًا من منطقة قرب دمشق.
ولا يخفي الشاهد خوفه من التواصل أو مراجعة مركز “خدمة المواطن” بعد أن خرج في برنامج تلفزيوني يشرح فيه ما تعرّض له من قبل موظفي المركز، علمًا أن إحدى الجهات الإعلامية توسطت لحلّ المسألة.
الشاهد الذي يعمل في مطعم “شاورما” اليوم يعبر عن يأسه قائلًا: “كنت بدي سجل بالجامعة وكمل دراستي وحاول دوّر (أبحث) عن مستقبل”، مضيفًا أنه أرسل الشهادة لأنه لا يستطيع السفر إلى غازي عينتاب، فهو معيل لأسرته ولا يمكنه ترك العمل، متهمًا الموظف بأنه “لا يمتلك إحساس المسؤولية”، ويجهل قيمة الوثيقة التي لا يصحّ أن تتعرض لأي شطب أو تحوير.
هل أخفى “الائتلاف” الفساد
أحد الشهود العاملين في “الحكومة المؤقتة”، طلب عدم الكشف عن اسمه، ادّعى وجود ما أسماها “عملية سرقة” لقسم من المبالغ التي يدفعها المواطنون السوريون لتصديق الشهادات العلمية من الصف الأول الابتدائي إلى الشهادة الثانوية (الشرعية، الزراعية، التجارية، العامة بفرعيها الأدبي والعلمي).
وأشار الموظف إلى أن “الحكومة المؤقتة” فتحت تحقيقًا أظهر أن مدير مركز “خدمة المواطن” السابق، واثنين من الموظفين، تقاسموا مبالغ زائدة على تكاليف البريد، حيث يدفع كل مواطن يريد تصديق شهادته رسمًا قيمته 30 ليرة تركية، ومبلغًا إضافيًا كرسم إعادة الإرسال عبر البريد (15 ليرة تركية)، إلا أن رسوم الإعادة كانت أقل من ذلك المبلغ.
يؤكد الموظف أن “الحكومة المؤقتة” قامت بمعاقبة الموظفين بالفصل، إلا أن “الائتلاف السوري” والأمين العام في “الحكومة المؤقتة”، فايز النابي” رفضا هذا الإجراء، لما سيكون له من أثر سلبي على “الائتلاف” والحكومة، وتم الاكتفاء بعملية نقل مدير “خدمة المواطن” السابق إلى مديرية أخرى، على أن يتم نقل بقية الموظفين على مراحل، ودون محاسبتهم أو فصلهم.
وتحدث الشاهد عن عمليات سمسرة وفوضى أدت إلى فقدان عدد من الشهادات، الأمر الذي دفع المركز إلى إصدار قوائم لمن فقُدت شهاداتهم بدعوى أن هناك خطأ في العنوان، طالبًا منهم المراجعة أو الاتصال للحصول على الشهادات.
فريق التحقيق حمل شهادة الموظف والمتضررين من طالبي خدمات تصديق الوثائق إلى مختلف الأطراف المعنية.
رد الحكومة: نظام وسماسرة وضعاف النفوس
فايز النابي، الأمين العام لـ”الحكومة السورية المؤقتة”، ردّ على المزاعم بأن مصدرها متضررون “من قيام (الحكومة المؤقتة) بتصديق الشهادات”، قاموا بحملات “تشويه على وسائل التواصل الاجتماعي فحدث تشويش حول عمل المركز”.
وحمّل النابي مسؤولية الحملة لسلطات النظام وقنصليته في اسطنبول، إضافة إلى “مكاتب سمسرة كانت تأخذ من الطلاب مبالغ وترسل شهاداتهم من دون وجود وكالة ومن دون وجود مستند قانوني”، وتابع أن هناك “حالات تزوير” كان يقوم بها “بعض ضعاف النفوس”، مشيرًا إلى أن هؤلاء قد تكون لهم مصلحة في حملة التشويه.
وحول إجراء تحقيق انتهى بنقل موظفين بدل فصلهم، نفى النابي المعلومات بشكل قاطع، معتبرًا أن عملية النقل “إجراء داخلي” هدفه “تحسين خدمات المركز”.
مَن سرق رسوم التصديق؟
خلال زيارة فريق التحقيق إلى مركز “خدمة المواطن”، تصادف وجود مغلّف جرى فتحه قبل الوصول إلى المركز، وتبين أن المبلغ المفترض دفعه من قبل المرسل غير موجود، الأمر الذي يشير إلى مشكلة في تنظيم العمل وضياع المال أو اختلاسه، وهو ما جرى طرح تساؤل حوله على الحكومة والموظفين، وبدا أن الجميع لا يرغب بتحميل أي طرف المسؤولية بشكل مباشر.
وأرجع أمين عام “الحكومة المؤقتة” السبب إلى عدم وجود حساب بنكي، مضيفًا “نحن مؤسسة سياسية لديها اعتراف سياسي، ولسنا مؤسسة ذات شخصية قانونية في تركيا، وبالتالي لا يمكن فتح حساب بنكي، لكن مساعينا لم تتوقف ونحاول بالتواصل مع الجانب التركي أن نجد حلًا”.
سألنا النابي عن إمكانية استخدام حساب “الحكومة المؤقتة”، وما إذا كان ذلك الحساب قد فُتح باسم أشخاص على اعتبار أنها تتبع لجسم سياسي وليست شخصية قانونية، كما قال سابقًا، وكيف يتم استخدامه في عمل الحكومة إذا كان الأمر على هذا النحو، إلا أن الإجابة لم تكن واضحة، إذ لم يفصح عن طبيعة الحساب قائلًا: “ذلك موضوع آخر”.
ارتباك وتضارب
قام مركز “خدمة المواطن” مؤخرًا بتخفيض رسم إعادة الشهادات إلى 15 ليرة تركية من 20 ليرة كان يتقاضاها سابقًا، إضافة إلى مبلغ 30 ليرة كرسوم تصديق.
بعض شهود التحقيق تحدثوا عن دفع مبالغ رسم إعادة رغم تسليمهم الشهادات باليد، ما يعني أن مبالغ رسم الإعادة ذهبت إلى جهة مجهولة.
في حين استبعد مدير مركز “خدمة المواطن”، طراد السعدون، وجود سرقة للمبالغ، وفضّل عدم الإدلاء بأي معلومات حول الفترة التي سبقت تسلّمه المهمة في شباط الماضي.
وأشار إلى أن بعض المغلفات تصل دون المال، وبعضها الآخر يكلّف أكثر من المبلغ المرسل كرسم إعادة في البريد، ولم ينفِ في ذات الوقت وجود فائض ببضع حالات، وهو لا يتجاوز بضع الليرات التركية.
ويتابع السعدون أن المركز وقّع اتفاقية مع شركة “يورت إيتشي” (Yurtiçi Kargo) بهدف تنظيم عملية إعادة إرسال الوثائق.
وللتثبت من وجود أموال فائضة عن رسوم التصديق مجهولة المصير، تم التدقيق مع مسؤول في مؤسسة البريد التركي (PTT)، وأكد أن وضع المال داخل المغلّف مخالف للقانون أساسًا، لكن يتم التغاضي بعض الأحيان، وحسب رغبة موظفي البريد، وهو ما يتطابق مع شهادات عدد من السوريين الذين أكدوا أن الموظفين منعوهم من وضع مبالغ في المغلفات مع الشهادات المطلوب تصديقها، في حين قال عدد آخر إن الموظفين مرّروا المسألة دون اعتراض.
وحول الرسوم، يقول مسؤول البريد إن أجرة إعادة تحويل الوثائق إلى أصحابها بالبريد من الحكومة المؤقتة تتراوح بين 16 و20 ليرة تركية حسب وزن الأوراق، إذ يحدد البريد مبلغ 16 ليرة تركية أجرة تحويل أوراق بوزن أقل من 20 غرامًا، وهو ما يعادل وزن مغلّف يحتوي خمس أوراق قياس “A4”.
وترتفع الرسوم إلى 20 ليرة تركية، للمغلفات التي يتراوح وزنها بين 20 و100 غرام.
وبخصوص طريقة تعامل المركز مع المبالغ التي يرسلها أو يدفعها طالبو التصديقات، يقول خالد الحمد، محاسب المركز، إن تحصيل الرسوم يتم “بموجب دفاتر قبض على ثلاث نسخ، الأولى لصاحب العلاقة والثانية تحفظ مع الاضبارة، والثالثة تبقى بدفتر القبض”.
ويؤكد الحمد أن المبالغ يتم تدوينها بموجب سجل يومي يذكر فيه اسم الدافع والتاريخ والمبلغ، حيث تتم المطابقة مع دفاتر إيصالات القبض وعدد الوثائق المصدقة، وفي نهاية كل يوم يتم جمع الإيرادات، وبنهاية كل أسبوع يجري تسليمها للخزينة المركزية بوزارة المالية التابعة لـ”الحكومة المؤقتة”.
“كورونا”.. دون بدائل
عدد من شهود التحقيق أكدوا أن المركز أغلق أبوابه لفترة طويلة تتجاوز الفترة التي فرضت فيها الحكومة التركية عملية الإغلاق بسبب انتشار فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19)، الأمر الذي اعترف به مدير المركز، طراد السعدون، مشيرًا إلى أن الإغلاق تزامن مع فترة القبولات الجامعية بين الشهرين الخامس والعاشر من العام 2020.
يحيى العبد الله، الموظف في المركز، والرئيس الأسبق له، أرجع سبب الإغلاق الطويل إلى إصابة موظفي المركز بالفيروس، مشيرًا إلى أنه وخلال شهر آب 2020 تم الحجر الصحي على موظفي المركز ولمدة 14 يومًا، وهي الفترة التي يتم خلالها التقدم للمفاضلات الجامعية.
ومن باب عدم ضياع فرصة التقدم للمفاضلات الجامعية في تركيا، قام المركز بالتواصل من وزارة التعليم الوطني التركي لإعطاء مهلة إضافية للطلاب لتثبيت تسجيلهم في الجامعات، بسبب الوضع الاستثنائي الذي مر به المركز، وتمت الموافقة على ذلك، بحسب العبد الله، الذي أضاف، “نحن بدورنا نؤكد لكم عدم حصول أي ضرر لأي طالب كان ينوي التسجيل في الجامعة خلال تلك الفترة”.
لكن لا يبدو أن الأمر محصور بفترة المفاضلات الجامعية، وما أورده العبد الله يتعارض مع شهادة رغدا (39 عامًا) التي كانت تقيم على بعد شارعين من المركز عندما قصدته في شهر آذار 2020، ولم تتمكن من تصديق شهادتها، إذ شاهدت مجموعة من المراجعين خلف أبواب موصدة، لم يتم استقبالهم، كما لم يتم الرد على رسائلهم على هاتف المركز، ولذلك اضطرت للذهاب إلى بريد “PTT”، وأرسلت الوثيقة مع مبلغ 50 ليرة تركية، وأخذت المسألة نحو 45 يومًا، رغم كل محاولات طلب تسريع التصديق.
“الحكومة المؤقتة”، حسب الشهود، لم تقدم بدائل لتلبية حاجات الطلاب وطالبي التصديقات الذين تُركوا لمصيرهم، وخسر كثير منهم فرصة التسجيل في الجامعة أو تعطلت أعمالهم بسبب التأخير، وهو ما يتعارض مع ما أورده مسؤولون في المركز.
إدارة إشكالية وعناوين تائهة
عدد من الشهود الذين راجعوا المركز اشتكوا من التعامل السيئ من قبل الموظفين وعلى رأسهم يحيى العبد الله، وهو موظف حالي “نافذ”، حسب وصفهم، كما شغل منصب مدير المركز في فترة سابقة، وتتقاطع شهاداتهم مع ما قاله المسؤول التركي في مديرية التربية بغازي عينتاب، والذي كان له تواصل مع نفس الشخص، وأشار إلى أن العبد الله عرقل كثيرًا من شهادات ووثائق المراجعين لأسباب غير مفهومة، وأن بعض الوثائق التي رفض توقيعها بحجة أنها مزوّرة، تبيّن للتربية التركية بأنها صحيحة من خلال “السيستيم” وآليات التدقيق الخاصة بها، الأمر الذي أضاع على أصحابها فرصة إكمال الدراسة أو تصديق الأوراق والشهادات.
وحول شهادة الموظف الذي ذكر أن الفوضى تسببت بضياع عدد كبير من الشهادات، تبيّن بتدقيق التحقيق أن المركز أصدر ثلاث قوائم بأسماء 338 شخصًا لم يتسلّموا شهاداتهم طالبًا منهم المراجعة (الأولى تضم أسماء 133 شخصًا، والثانية 172، والثالثة 33 اسمًا).
بينما قال الموظف يحيى العبد الله، إنه تم إنجاز معاملات كل الأشخاص الواردة أسماؤهم فيها، وتم إرسالها لأصحابها، لكنها عادت دون أن يتسلّمها أصحابها نتيجة خطأ في العنوان أو رقم الهاتف.
فساد سوء الإدارة
اعتمادًا على خبرته في العمل مع جهات حكومية وخاصة ومنظمات دولية، عرضنا عددًا من النقاط التي تناولها التحقيق على الدكتور زيدون الزعبي، المتخصص في إدارة الجودة والحوكمة.
ففي مسألة فوضى رسوم البريد، وتعقيدات افتتاح حساب بنكي، أشار الزعبي إلى أن الموضوع يؤخذ من منظور مبادئ الحوكمة الرشيدة، وأهمها الشفافية والتشاركية والتضمينية، إذ تجب مشاركة الناس بشكل شفاف حول التعقيدات، والاستماع إليهم ووضعهم بصورة الصعوبات، الأمر الذي يدفعهم للمشاركة واحترام العملية الإدارية، فكيف سيفهم الناس استحالة افتتاح حساب بنكي لمركز “خدمة المواطن” لأنه يتبع لشخصية سياسية وليس اعتبارية، في حين تملك الحكومة حسابًا وهي بذات الوقت تحمل نفس التوصيف.
وعندما لا تتم التشاركية يقع الشك، لأن “الناس أعداء ما جهلوا”، بحسب زيدون الزعبي، وعدم الفهم يقود إلى الشك على المستوى العام، وهذا جزء أساسي من الفساد الناجم عن جهل الإدارة والحوكمة الرشيدة، وليس نتيجة سرقة.
ويشير الزعبي إلى أن أغلب الفساد الحاصل في المؤسسات السورية ناجم عن جهل أو سوء بالإدارة، وهو غالبًا فساد غير مقصود، كما أن الفساد قد ينشأ عن ضعف التنظيم، وقد تكون النوايا طيبة إلا أن هناك عدم معرفة بالإدارة.
وفيما يخص سوء التنظيم خلال فترة “كورونا” واللغط الحاصل حول ضياع الفرصة على كثيرين، حسب الشهود، وما ترافق من تراكم خلال فترة الإغلاق بسبب “كورونا”، يرى الزعبي أن الجزء الآخر من الحوكمة الرشيدة هو الاستجابة الفعالة، وهي تعتمد على حوكمة المخاطر من قبل الإدارة، وهذا لا يعني فقط التنبؤ بالمخاطر، بل وضع تصور معالجتها ومن المسؤول عن هذه المعالجة، مع وجود أدوات رقابة ومتابعة.
وحول مقولة إن المئات كتبوا عناوينهم أو أرقام هواتفهم خطأ فضاعت وثائقهم، يتساءل قائلًا: “هل هناك عملية موازية بالبريد الإلكتروني تضمن عدم ضياع الوثائق أو عودتها دون أن يتسلّمها أصحابها؟”.
ويتابع أن مثل هذه المشكلات تنشأ نتيجة للعمل من دون خطط بديلة وعدم دراسة المخاطر، وعندما تنشأ ظروف مثل التي حصلت في جائحة “كورونا” يصبح الرد اعتباطيًا، مع الإشارة إلى أن ذلك لا يخص السوريين، فهناك بلدان متطورة شهدت نفس المشكلة، ما يعني أن جزءًا من سوء الإدارة قد يكون خارج إرادتنا.
في موضوع تحمّل مسؤولية ما يحصل، وفي جانب المساءلة والشفافية، يتساءل الزعبي كيف تمكن المحاسبة دون دليل، وكيف يمكن الحصول على دليل دون عملية موثقة، وعدم وجود تشارك في صناعة العملية، هذه العناصر مرتبطة ببعضها.
ويوضح أن هناك فسادًا في كثير من الأماكن لا يمكن إثباته بسبب انعدام الدلائل القائمة على عمليات موثقة، وخطوات إدارية يجري ضبطها وفق مراحل واضحة بحيث تتوقع حصول الخلل في أي مرحلة فتقوم بتحضير البدائل والحلول، وتمنع حصول خلل أو فساد، فمثلًا عندما تقوم بإصدار تقارير مالية مدققة من طرف ثالث، فذلك إجراء يتجاوز كثيرًا من الفساد، ومع عدم وجود مثل هذا الإجراء كما هو حاصل في المؤسسات السورية، ترتفع احتمالية حصول فساد قد لا يجري إثباته، الحالة تشبه حالة الشرطي الذي يسجل مخالفات على السيارات دون إيصالات، فيمكن أن يعود وفي جيبه مبلغ لا تستطيع أن تقول ما إذا كان هذا المبلغ قد تم أخذ جزء منه لعدم وجود ما يثبت ذلك.
ويختم أنه بالنسبة للواقع السوري، تبقى احتمالات سوء الإدارة والفساد بسبب كثير من العوامل، منها ضعف الخبرة، أو الفوضى الحاصلة، وحتى الجوانب الأمنية، فمبادئ الحوكمة الثمانية مثالية إذا تحققت جميعها، لكن ليس ثمة مؤسسة في الدول المتقدمة يمكنها تطبيقها بحذافيرها، “فما بالك بالنسبة لسوريا، حيث الفوضى وتعدد السيطرة وضعف الإدارة، وعدم وجود متخصصين”.
ما زلنا في بداية الطريق
سعى التحقيق للتثبت من مزاعم وجود شبهة فساد، أو فوضى، أو سوء إدارة، أو تعرض المواطنين لسوء المعاملة، وحجم المبالغ المدفوعة لمكتب “خدمة المواطن”، وتمت الاستعانة بشهادات 13 شخصًا صدّقوا شهاداتهم أو فشلوا في تصديقها، كما قابل فريق التحقيق عددًا من الموظفين والمسؤولين الحاليين والسابقين في مركز “خدمة المواطن” و”الحكومة المؤقتة” ومديرية التربية وخدمة البريد التركيتين.
تبيّن من خلال شهود التحقيق والنبش في القضية أن جوانب أخطر تتعلق بمصير آلاف الطلاب من الذين فقدوا الأمل في بلادهم أول مرّة، وفي حين أكد أربعة شهود أنهم صدّقوا أوراقهم دون مشكلات، أكد تسعة شهود أن تعامل المركز معهم كان صادمًا، أو أنهم تعرضوا لسوء معاملة، أو تهديد، أو تلف في الوثائق أو فوضى تسببت في خسارتهم فرصة إكمال تعليمهم الجامعي.
تقول “الحكومة المؤقتة” عبر أمينها العام، إنها لا تفكر في إلغاء الرسوم، وإنها لم تجد حلًا بافتتاح حساب بنكي يمنع دوامة الشكّ في فساد مالي بخصوص الرسوم، أو إجبار السوريين على انتهاك القانون التركي بإرسال المال ضمن المغلّفات.
وفي حين تحدث عن الإنجازات التي حققها المركز واعدًا بالمزيد، يجيب أمين عام الحكومة عن سؤال التحقيق حول ضرورة اعتماد حوكمة رشيدة بالقول: “ما زلنا في بداية الطريق”.
تحقيق استقصائي أنجزه مشروع “Syria Indicator” في إطار صحافة الحلول، يكشف عن قضية فقدان طلاب سوريين فرصة التسجيل في الجامعات التركية أو تضررهم، جراء فوضى إدارية وسوء معاملة في مركز “خدمة المواطن” التابع لـ”الحكومة المؤقتة” (تديرها المعارضة السياسية).
–