إبراهيم العلوش
كتاب “الحرّانيون السومريون” محاولة جديدة لإعادة تأريخ منطقة الجزيرة السورية، والتقاط نقاط القوة في هذا التاريخ عبر رصد تاريخ حرّان وعلمائها وأديانها والروايات المتضاربة حولها.
الكتاب صدر حديثًا عن دار “جدار”، وهو من تأليف خلف علي الخلف، وقصي مسلط الهويدي، والكتاب موجود على منصتي “أمازون” و”جوجل” للكتب.
ينطلق المؤلفان من محاولة فك لغز الحرّانيين، وهم سكان المنطقة التي تقع على منابع “البليخ”، وتعتبر جزءًا من وادي حوض الفرات، وصدّرت للدولة الإسلامية كبار المترجمين والعلماء والأطباء، منهم ثابت بن قره، والبتاني، وسنان بن ثابت، ولكن حرّان التي رفضت الدخول في الديانة المسيحية عانت كثيرًا من حملات جيرانها سكان الرها (أورفا) الذين كانوا يعتبرونهم وثنيين ومارقين، ولكن مع وصول الدين الإسلامي إلى الجزيرة السورية، اُعتبِروا صابئة موحدين، وهم غير صابئة المندائيين في العراق، وهذا خفّف عليهم الضغوطات الدينية، وسهّل دخول علمائهم إلى قصور الخلفاء العباسيين كالمقتدر الذي كان يجالس ثابت بن قره كصديق ونديم أمام كل حاشيته التي تبقى واقفة وهما يتنادمان ويتضاحكان.
تقع حرّان شمال الرقة وداخل الحدود التركية، وقد قمت بزيارتها في أول انفتاح بين تركيا وسوريا، ولكنني وجدتها خربة وآثارها عبارة عن تلة يسكن حولها قرويون بسطاء يلبسون الألبسة الملونة، ويضعون على رؤوسهم محارم بنفسجية، وعدتُ خائب الأمل من معرفة تاريخ حرّان، حتى حصلت على هذا الكتاب القيّم الذي يتقصى تاريخ حرّان وسرّ عظمته.
يقول الكاتبان، إن الحرّانيين من بقايا عبدة آلهة القمر سين، وهو إله سومري قديم، وينسبان لهم وراثة التعاليم الفلاحية السومرية، وكانوا يقدّسون الكواكب ليس شركًا بالله وإنما يتخذونها وسطاء مع الله، وهم من ابتكروا صيغة “لا إله إلا الله” من دون اللاحقة التي أكملها المسلمون “محمد رسول الله”.
وسكنها النبي إبراهيم الخليل مطرودًا من بلاده في جنوب العراق لأنه كفر بآلهتهم، وتتلمذ على أيدي علماء حرّان، ويتقصى الكاتبان أصل القول الإسلامي في الصلوات الإبراهيمية “حنيفًا مسلمًا”، فالأحناف حسب أهل الرها هم الوثنيون، إلا أن إبراهيم الخليل حوّل معناها إلى الموحدين، ونفى عن الأحناف صفة الوثنية. وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن عبادة القمر وصلت إلى الجزيرة العربية، فثمة احتمال أن يكون رمز الهلال الإسلامي اشتُق من ديانة الحرّانيين لأنهم يجلّون القمر كثيرًا، وقد هجروا تقديس الشمس لحساب إله القمر سين السومري وهذا ما لم يتناوله المؤلفان.
ويقال إن الخليفة العباسي المأمون مرّ بديارهم وتعجب من عباداتهم، ومن لبسهم، وسألهم عن أصل دينهم وهل هم مسيحيون أم يهود أم من ملّة أخرى، وأنذرهم بالموت إن لم يجيبوا عن سؤاله في مهلة عودة الخليفة من غزوة كان ذاهبًا إليها، لكنّ الحكام المسلمين تركوهم على عبادتهم وقام رجل دين بإعطائهم حجة للجواب على رسول الخليفة بالقول إنهم صابئة وموحدون، وقد نجحت الطريقة وكفّ سكان حرّان عن الذعر من مصير القتل الذي أنذرهم به الخليفة العابر لديارهم.
ويقول المؤلفان، إن ابن تيمية كان من سكان حرّان، وكان دارسًا لهم وراسل بعض العلماء والعارفين بشأنهم. لكن جنكيز خان وحملته على المنطقة الفراتية في القرن الـ13 الميلادي هي التي أودت بهم وهجّرت من تبقى منهم في حرّان، بعد أن كانت موجة الهجرة الأولى باتجاه بغداد كعلماء وكنخب ثقافية وحضارية، وهذا يعادل دورهم السابق في الإسهام بتكوين فلسفة فيثاغورث وأفلاطون وأفلوطين الذين صاروا مقدسين في ديانة الحرّانيين المعقّدة.
ويروي الكاتبان عن المصادر بأن سبب تدمير جنكيز خان لمعبد القمر الأخير هو استماعه إلى أقوال المسيحيين بحقهم بأنهم وثنيون، خاصة أن زوجة جنكيز خان دخلت المسيحية النسطورية، واعتبر أهل الرها جنكيز خان أحد القادة العظام بسبب حمايته لمسيحييها وللكنيسة النسطورية.
وبعد دخول الحرّانيين المزارعين مرحلة الشتات، اعتبر الكاتبان أن سكان وادي الفرات الحاليين هم ورثة الحرّانيين السومريين، وأن الشوايا في ريف الجزيرة “أنصاف الحضر”، ومنهم عشيرة “البوشعبان” و”المجادمة” اللتان ينتمي إليهما المؤلفان من الاستمرارية السومرية باعتبارهما عشيرتين زراعيتين لهما نفس تعاليم الحرّانيين الزراعية. وهذه مفارقة رغبوية وقع بها المؤلفان كما أعتقد، فالعشيرتان المذكورتان لم تعرفا الزراعة إلا مطلع الخمسينيات من القرن الـ20 مع ثورة القطن التي رعاها المزارعون الحلبيون وغيرهم، وكانت قرى العشيرتين لا يكاد يوجد فيها شجرة واحدة، ما يدل على الأصل البدوي المتحول إلى الاستقرار مثل كثير من الأرياف الواقعة على حافة بادية الشام، فالتراث في وادي الفرات أقرب إلى البداوة، وأما تقديس الزراعة الحرّاني فلم يكن من اهتمامات أهل المنطقة وشواياها رغم وجود أحد أكبر الأنهار فيها وهو “الفرات”.
وقد جلب الاهتمام بالزراعة إلى المنطقة أبناء ريف حلب وغيرهم، وأذكر أن أهل قرى الكسرات عندما بدؤوا بزراعة البندورة في الستينيات بـتأثير من السفارنة، وهم من ريف حلب الشرقي، كان أقارب أهالي الكسرات من نفس قبيلة “البوشعبان” يتعجبون من ذلك ويصفونهم ساخرين بـ”أهل البندورة”، وربما بأكثر من ذلك. لقد بدا ذلك الاستنتاج المتسرّع كأنه نوع من السلفيّة القبليّة.
ويبالغ الكاتبان في مظلومية الشوايا، وهم أنصاف الحضر من سكان المنطقة الفراتية، ويعتبران أن الصراع ضدهم بسبب أصلهم الزراعي الحرّاني السومري، متناسيين أن مشكلة الصراع بين الريف والمدينة هو صراع متفاقم في كل سوريا وفي العالم العربي، وحتى في فرنسا على سبيل المثال، لا يزال الباريسيون يقولون إن الفرنسيين هم قسمان: الأول سكان باريس، والثاني سكان الأرياف والأقاليم والمدن الأخرى في كل فرنسا، الذين يحملون لقب أقرب إلى لقب الشوايا (provinces).
ورغم هذه النقطة التي هيمنت على الثلث الأخير من الكتاب، بالإضافة إلى وجود التكرار في بعض المواقع، فإن كتاب “الحرّانيون السومريون” فيه الكثير من الحماسة والتدفق المعرفي الذي يضيء بشكل ممتاز لغز الحرّانيين وأصولهم ومصيرهم، وربما سيُعتبر الكتاب من أهم المراجع في هذا المجال، فقد استعان المؤلفان بعشرات المصادر ومن مختلف اللغات، واتسمت كتابتهما بالتشويق الذي يجعل الكتاب قريبًا منك وتتمنى الاستمرار بصحبته.