إبراهيم العلوش
مثل قصر العظم الذي نعرفه جميعًا، كذلك هو خالد العظم الذي تكرّر سيرته الكتب السورية كأحد أشهر الاقتصاديين ورؤساء الوزراء السوريين، وأحد رجالات الاستقلال، وابن العائلة التي بنت قصر العظم الشهير بدمشق قبل حوالي ثلاثة قرون، وأنجبت المفكر صادق جلال العظم.
ولد خالد العظم (1903- 1965) لعائلة مختلطة الأصول، ولكنها حسمت أمرها واختارت أن تكون سوريّة عند انهيار الدولة العثمانية، فالأب محمد فوزي العظم (1858- 1919) كان أحد وزراء الدولة العثمانية ورئيس أول برلمان سوري بعد الاستقلال. ومن رجالاتها الذين أنجبتهم تلك العائلة وأشهرهم في ذلك العصر أسعد باشا العظم (1701- 1757) أحد كبار الولاة الإصلاحيين في سوريا، وباني قصر العظم قرب الجامع “الأموي”، الذي تحول إلى متحف للعادات والتقاليد والأزياء السورية، بالإضافة إلى فضائه المعماري الذي يجمع بين الرفاهية واحتضان الطبيعة، إلى جانب تشابك العادات والبرتوكولات العائلية الشرقية فيه.
وحسب الجزء الأول من مذكراته، فقد تعلّم خالد العظم في الجامعة السورية بعد أن تركتها الدولة العثمانية، ودرس الحقوق رغم عدم رغبة العائلة التي اختارت له تخصصًا آخر، ولكنه أصرّ على هذه الدراسة التي دفعته ليكون أحد أعلام الحكومات السورية في عهد الحكومات الوطنية وبعد الاستقلال وصولًا إلى دولة “البعث” التي نفته، ومات غريبًا في لبنان بحجة أنه رجعي ولا يؤمن بعسكرة المجتمع التي ابتلي بها المجتمع السوري اعتبارًا من بدايات دولة الوحدة 1958 واستمرارًا بدولة “البعث” التي أثمرت أخيرًا الخراب والدمار وعبادة آل الأسد.
كان العظم مفاوضًا عنيدًا مع الفرنسيين، وكان يفهم محركات المصلحة السورية بعد دراستها بعناية، والاعتماد على فريق من المساعدين الذين يتسمون بالنزاهة والإخلاص، وكان موقفه شهيرًا من موضوع الإعاشة أيام الاحتلال وإصراره على أن تكون بيد السوريين، وصولًا إلى تحويل إدارة الاقتصاد بيد الحكومة الوطنية من المواقف التي صنعت مجده. ويضاف إلى ذلك جهوده في تأسيس صندوق النقد السوري واستقلالية الليرة السورية التي رفعت من قيمتها، ومفاوضاته لشراء الأسلحة للجيش السوري من فرنسا بعد خروجها، ومن بعدها شراء الأسلحة من الكتلة الشرقية حتى أطلق عليه الشيوعيون لقب الوزير الأحمر، على الرغم بأنه لم يكن اشتراكيًا، ولكن مصلحة الدولة عنده كانت فوق الرغبات والعداوات الأيديولوجية.
واستعمل بعد الاستقلال الموقف الفرنسي المعادي للإنجليز في دعم الحكومة لمواجهة محاولات الهيمنة الإنجليزية على سوريا عبر: حلف بغداد، اتفاقات مرور البترول في سوريا، العلاقات مع المملكة العربية السعودية، ودعم الانقلابات التي كانت غايتها مصالح الدول وممراتها البترولية وليس مصالح الشعب السوري. وهذه الانقلابات هي تأريخ قديم لسلخ الجيش السوري عن خدمة الوطن والشعب لمصلحة المصالح الأجنبية، وهذا الدور لا يزال مستمرًا إلى اليوم عبر استغلال عائلة الأسد الجيش السوري كوسيلة للتخريب والتدمير وخدمة المحتلين الإيرانيين الروس.
خالد العظم كان معارضًا صعبًا بوجه شكري القوتلي، كما كان كذلك بوجه المصالح الفرنسية إبان الاحتلال، ولكنه كان يعتمد التفاوض والصفقات وقضم المصالح بدلًا من العنف والتهييج، كما فعل عبد الرحمن الشهبندر وأنصاره، والانقلابيون العسكريون مثل حسني الزعيم والحناوي والشيشكلي ومن بعدهم البعثيون والناصريون الذين خرّبوا أسس الدولة الوطنية ودبلوماسيتها كما يعتقد العظم.
تحالف العظم مع مختلف الحكومات بما فيها الحكومات المدعومة من فرنسا، ولكن مصلحة البلاد كانت هي العلامة الفارقة التي تحركه في عمله الحكومي والسياسي، وهذا ما حافظ على سمعته كرجل نزيه لا يستغل المصالح الحكومية، وكثيرًا ما جاء لتسلّم منصبه ماشيًا على قدميه، في مفارقة تاريخية مع سيارات حافظ الأسد وموتوراته ومواكبه البوليسية التي استنزفت الخزينة السورية، بالإضافة إلى دورها في استصغار المواطن أمام وثنية القائد “الخالد”!
وقف خالد العظم مع شكري القوتلي ضد حلف بغداد، وضد كل المعاهدات التي كانت تستهدف استقلال سوريا، ووقف معاديًا لدولة الوحدة بينما خضع لها شكري القوتلي وسلّم البلاد للعسكر.
وكان العظم إسلاميًا معتدلًا وعروبيًا في توجهه، ولكنه استشعر خطر العسكرة والهياج الشعبي الذي تستخدمه القوى الثورية الجديدة، واعتبره تخريبيًا وضد مبادئه في العمل الدبلوماسي والتفاوض الهادئ وبناء القبول المتبادل للصفقات مهما كانت قاسية في البداية.
يعتبر العظم أن شكري القوتلي تنكّر لحلفائه ولمعاونيه، واستعمل أساليب تسلطيّة انتهت بتسليم الدولة السورية لجمال عبد الناصر ومخابراته، وهو لا يخوّن القوتلي في مذكراته، بل يعتبره ضحية من ضحايا السياسات الخاطئة، خاصة أن القوتلي، كما يقول العظم، تحوّل إلى شبه متسول في دولة الوحدة، يبحث عن مصالح صغيرة عند العسكر بعد أن سلخوا منه مكانته، وغيّبوا الديمقراطية التي كانت تتمتع بها سوريا رغم العيوب الكثيرة التي كانت تشوبها.
لا شك بأن خالد العظم له عيوبه وهو من طبقة غنية كانت تستأثر بحكم البلاد وبثرواتها حينها، ولكنه كان رجل دولة واقعيًا له مبادئه السياسية والإدارية، وله فهمه العميق للدولة ومحركاتها، وكان ناجحًا في الاستفادة من إدارتها على أكمل وجه، كما كان يحمي مصالح الفقراء بشكل متوازن بالإضافة إلى مصالح الفئات الدمشقية الغنية، وقد بنى عليهم شعبيته وضمان فوزه في الانتخابات، خاصة أن شعبيته ترجع إلى كون والده أحد أشهر رؤساء البلديات في تاريخ دمشق بالإضافة إلى كونه ممثلًا لدمشق في البرلمان منذ أيام الدولة العثمانية.
وكاد العظم أن يكون أحد منافسي شكري القوتلي عندما عارضه في تغيير الدستور للاستمرار في الرئاسة، ولكن الأخير كان بارعًا في الألاعيب السياسية وفي بناء التحالفات أكثر من العظم الذي كان أقرب إلى شخصية البيروقراطي والموظف الرسمي، على عكس الكثير من رجالات السياسة السوريين الذين كان يعمل معهم، والذين كانوا أكثر شعبية كسعد الله الجابري وناظم القدسي وهاشم الأتاسي وفارس الخوري، والذين حققوا مع بقية السوريين استقلال سوريا.
خالد العظم الذي كان أحد مؤسسي الدولة السورية، وأشهر رئيس وزراء بتاريخها، خلفه رؤساء وزراء تابعون للمخابرات وللعسكر، ويفتقدون القدرة على القرار والإرادة المستقلة، ولعل أشهرهم محمود الزعبي ومصطفى ميرو وصولًا إلى حسين عرنوس الذي يهلل اليوم لجرائم عائلة الأسد!