جودي عرش – الوعر
لم يبتعد التراث السوري عن قائمة «الإرهاب» التي خطها النظام للمناطق السورية الخارجة عن سيطرته منذُ انطلاق الثورة، والتي لم تقتصر على أرواح المدنيين ومنازلهم وممتلكاتهم، بل كان للتراث أيضًا نصيب في السرقة والدمار.
سوق حمص «الأسود»
بعد خروج مقاتلي حمص القديمة منها في أيار 2014، دخلت قوات الأسد إلى منازل المنطقة بهدف توريط الجيش الحر بأعمال السرقة وتشويه سمعته أمام سكان المدينة النازحين، بحسب ناشطي حمص، الذين يتهمون الأسد بسرقة وتدمير تراث المنطقة.
السوق السوداء افتتحت تزامنًا مع نكبات كل منطقة، وهي سوق تباع فيها ممتلكات المنازل كافة من أوانٍ وأدوات ومفروشات حتى الملابس والأدوات الإلكترونية، بحسب الناشط أبي إسلام الحمصي، عضو تنسيقية الحمرا والغوطة والدبلان.
وينقل الحمصي لعنب بلدي أن “معظم ما يباع في الأسواق الواقعة ضمن الأحياء الموالية للنظام تعود ملكيته لأهالي المناطق السنية، فكلما دخلت قوات النظام إلى منازل المدنيين أو مناطقها تزدحم هذه الأسواق، حتى سميّت بأسواق السنة”.
الملفت هو بيع الممتلكات القديمة التاريخية التي تدلّ على تاريخ المنطقة وتميّزها، وفق الحمصي، الذي يضيف “زاد انتشار هذه التحف بعد خروج الجيش الحر من أحياء حمص القديمة التي تشتهر بغناها وتراثها”.
بيع الأدوات الإلكترونية والتراثية بأسعار زهيدة أمرٌ يدفع للدهشة، ويعود ذلك إلى “جهل الموالين بالثقافة السورية”، حسبَ وصف أبي إسلام، ويتابع ساخرًا “لا يمكننا أن نتخيل كيف يباع تراث وطن بمئات الليرات أو كيف يتحول الحاسوب المحمول إلى سخانة للشطائر”.
الحال في الوعر يختلف جذريًا
حالة فقر وجوع ونزوح كانت طاغية على أبناء حي الوعر ونازحيه طيلة ثلاث سنوات ماضية، ما دفع بهم إلى بيع ما يمتلكونه لقاء ثمنٍ لرغيف الخبز في ظل حالة الحي المنكوب، وفق تعبير (أ. ط)، الذي يعمل بائعًا في سوق الحي، ويقول “معظم الناس الذين يأتون لبيع أغراضهم يمتلكون شعورًا بالحزن والكآبة من الحالة التي وصلوا إليها، إذ اختاروا بيع أشيائهم الثمينة والغالية على قلوبهم، متجنبين سبلًا منحرفة لكسب لقمة العيش”.
ويردف التاجر «ما من قوة تقف أمام دموع طفلك الذي يحتاج لطعام وشراب، وهذا الحال شعرنا به جميعًا وهو ما جعلني أتاجر بالقطع المستعملة»، منهيًا حديثه «إنها أشبه بحالة عجز عقيمة، لكن الحرب لم تعطنا الفرصة لوقف هذه الكارثة، وأعتقد أن الشخص الذي يفضل إطعام أطفاله بالحلال هو شخصٌ يستحق الاحترام فعلًا”.
منقذو التحف
الآلاف من أبناء حي الوعر المحاصر لا زالو حتى اللحظة يهتمون بإنقاذ التراث الحمصي من الضياع، في ظل ندرة التحصيل العلمي والثقافي العائد إلى حالة التشريد والقتل، بحسب الشاعر فراس الرحيم، الذي يوضح “في حوزتي ما يفوق الـ 1500 كتاب، 500 منها تنطوي تحت مسمى الكتب القيمة جدًا وتعبر عن التنوع السوري، سياحة وعقيدة وفلسفة وثقافة؛ إنها شاهدة أيضًا على غنى ثقافي قد يكون قريبًا من الأفول”.
تمتاز مكتبة الرحيم بتنوعها التاريخي والسياسي والأدبي إلى جانب كتب علم الاجتماع وفقه الديانات التوحيدية الثلاث باختلاف مذاهبها، أما عن آخر «كنز» أنقذهُ الرحيم فهو 362 كتابًا يصفها بـ «الموسوعة» في مختلف فروع العلم ومن بينها مخطوطتان الأولى في تاريخ دمشق لابن عساكر والثانية للإمام ابن حزم الأندلسي.
اقتنى الرحيم هذه المجموعة لقاء مبلغ قدره 10 آلاف ليرة سورية، أي ما يعادل ثمن 5 كيلو من البصل حسب سعر السوق السوداء في الحي المحاصر، ويعود سبب بيعها بهذا السعر البخس، بحسب اعتقاد الشاعر، إلى «قلة الدراية بما تحويه من كنوز للمعرفة، أو أنّ الحمصي اليوم ليس له همّ سوى إيجاد لقمة العيش وهذا الأمر مؤلم”.
اعتراض شرعي
لم يقتصر اهتمام الرحيم على اقتناء الكتب فقط بل كان أيضًا من هواة جمع قطع تراثية تعود إحداها إلى عام 1927، ويقول «أكثر ما يميز مجموعتي هو شمعدان نحاسي منقوش صنعهُ يهودي من مدينة دمشق، وقد نقش عليه اسمهُ والعام الذي صنعهُ (1927)، كما أنني أملك كأس شراب روماني، ومن باب الطرفة والحسرة فإن ثمن القطعتين 300 ليرة سوية أي أقل من دولار واحد».
اعتراض شرعي واسع واجه الرحيم وغيره جراء شراء الكتب والقطع التراثية، لكنه يردّ «لو تأمن كيان ضابط يتحلى بالنزاهة والموضوعية لكنت ممن حاربوا الظاهرة، ولكن فلسفة الواقع فرضت، لذا رأيتُ أنّ الأولى والأهم هو إنقاذُ بعض ما يمكن منها، خير من التنظير وإطلاق الشعارات، فهذه ذاكرة وطن وإنقاذها ثورة».
أغلب الآثار والتحف التي سرقت من أحياء حمص القديمة بعد خروج الثوار منها هربت وبيعت خارج البلاد، وقد شوهدت عدة قطع أثرية تباع في مزادات علنية في الضاحية الجنوبية في بيروت التي يسيطر عليها حزب الله حليف الأسد في سوريا.