خاص – عنب بلدي
لم يكن استمرار ارتفاع أسعار الإيجارات في دمشق (الأسد) كافيًا للحد من الصعوبات التي يواجهها المواطنون في تأمين مساكن، لتضيف إليها الحكومة تعقيدًا جديدًا عبر ضرورة استصدار موافقة أمنية لكل من يرغب باستئجار شقة سكنية، ما خلق إرباكًا كبيرًا للمواطنين وفتح باب الواسطات والرشاوى لعناصر النظام، سواء في أفرع الأمن أو البلديات.
وتشكل مناطق النظام ملاذًا آمنًا للمواطنين للنزوح إليها كونها لا تتعرض للقصف اليومي بالبراميل والحاويات المتفجرة، ما جعلها مقصدًا للسوريين الهاربين من المعارك.
أما ورقة «الموافقة الأمنية» فهي جديد قرارات النظام الأمنية، ممثلة بفروع الأمن العسكري والسياسي، من أجل السماح للمواطنين من مختلف المناطق الواقعة تحت سيطرته باستئجار شقق سكنية، وهو تصرف وصفه ناشطون معارضون بأنه «فخ» يريد به النظام التأكد من ميول وولاء كل من يقع تحت سيطرته، عبر فحص سجله والتأكد من نشاطاته، وخاصة أولئك المهجرين والنازحين من مناطق الاقتتال بين قوات النظام والمعارضة المسلحة.
كيف تتم الموافقة؟
فور الاتفاق بين المستأجر وصاحب الشقة السكنية أو المكتب العقاري، يكتب عقد الإيجار بين الطرفين، ثم يتوجه المستأجر إلى أقرب مخفر شرطة ليقدم طلبًا ويملأ استمارة تفصيلية، تتضمن بياناته كاملة، للحصول على موافقة من أجل السكن في المنزل المتفق عليه، ثم يُطلب من مقدم الطلب المراجعة بعد 15 يومًا، وقتها يمكن القدوم إلى المخفر والاستعلام عن الموافقة ونتيجة الطلب.
ليس هذا فحسب، بل إن مناطق معينة وسط دمشق كالمهاجرين، حيث قصر رئيس النظام السوري وبعض رؤساء الأفرع الأمنية الحساسة، يحظر فيها منح موافقة سكن لأي مواطن، ما لم يكن قيد نفوسه في “دمشق” حصرًا، وبعد إجراءات طويلة، شريطة أن يكون المستأجر عائلة وليس أفرادًا.
محمد حسين، من سكان المليحة النازحين إلى العاصمة، يقول «رفض مخفر منطقة الصالحية بدمشق منحي موافقة على استئجار منزل في منطقة الجسر الأبيض، دون أن أعرف سبب الامتناع»، ويضيف لعنب بلدي «أنا حائر وربما سأبحث في منطقة أخرى، علّي أن أنجح بالحصول على مسكن لي ولعائلتي».
أما عدنان (اسم مستعار لأسباب أمنية)، المتخرج حديثًا من جامعة دمشق، فيقول «فور تخرجي من الجامعة، لم يعد بإمكاني استخدام السكن الجامعي، فقررت استئجار غرفة في منطقة المزة، لكن الجهات المختصة لم تمنحني الموافقة، دون تبيان السبب بدقة ووضوح».
عاملان يتحكمان بالأسعار
وفي سياق متصل، تشهد أحياء ومناطق سيطرة النظام إجراءات أمنية مشددة، خشية تسلل قوات المعارضة أو من يوصفون بـ «الإرهابيين»، وفق تعبير عناصر الحواجز المنتشرة على الطرقات وفي مداخل المدن والبلدات.
وتشهد سوق تأجير الشقق السكنية والعقارات حركة متزايدة بسبب استمرار حركة النزوح في الداخل، ويتحكم بالأسعار عاملان أساسيان هما: نسبة الأمان في المنطقة أو الحي وبُعدها عن مناطق الاقتتال والمعارك، إضافة إلى قربها من وسط ومركز المدن، ما يؤدي لاختصار الوقت وعدم التعرض لحواجز النظام على الطرقات يوميًا.
وبسبب الإقبال الشديد، باتت الشقق غير المجهزة للسكن (على العظم)، مقصدًا للعائلات المحتاجة الباحثة عن مأوى، أمام عدم القدرة على تأمين الأجرة الشهرية.
هذه السوق تشهد انتعاشًا حقيقيًا بسبب العائد السريع القادم من تأجير الشقق السكنية، ما يدفع المالكين لرفع الأسعار وطلب أرقام “جنونية». وبحسب جولة قام بها مراسل عنب بلدي على عدد من المكاتب العقارية في دمشق، فقد ارتفعت الإيجارات أكثر من 300٪ منذ بداية الثورة، وبلغ وسطي أجرة الشقة المفروشة نحو 100 ألف ليرة بعدما كان قرابة 30 ألف ليرة.
ويبلغ وسطي أجرة شقة سكنية في منطقة ركن الدين بدمشق دون أثاث بين 40 إلى 50 ألف ليرة، أما أجرة الشقة في منطقة العدوي والتجارة بين 60 إلى 80 ألف ليرة.
وفي منطقة الميدان وباب مصلى تصل إلى نحو 70 ألف ليرة، وفي منطقة المزة – شيخ سعد حوالي 60 ألف ليرة.
وتنخفض الأسعار قليلًا في منطقة مساكن برزة، لتتراوح بين 30 إلى 50 ليرة للشقة الواحدة، أما في مشروع دمّر خارج حزام المدينة، فتتراوح الأسعار بين 80 إلى 100 ألف ليرة، وترتفع إلى 150 ألف ليرة في ضاحية قدسيا لمنزل مساحته 120 مترًا مربعًا.
ستة أشهر مقدمًا أو لا سكن
لم يقتصر “جشع” المالكين في دمشق، كما يصف أحد المستأجرين، على رفع إيجارات المساكن أضعاف ما كانت عليه في الأوضاع الطبيعية، فمعظمهم وضع شرطًا “تعجيزيًا” جديدًا على القادمين من خارج العاصمة، وهو الدفع مقدمًا لستة أشهر، وأحيانًا لسنة كاملة، لاسيما إن كانوا من المناطق المحاصرة أو التي تشهد معارك.
فالمواطن أبو مظهر، أحد الهاربين من بلدة محاصرة في ريف دمشق، أخرجه مالك البيت من منطقة المهاجرين بذريعة تزويج ابنه، بعد أن أبدى عجزه عن دفع أجرة ستة أشهر مقدمًا عند تجديد العقد، ليجد الأب الذي يعيل أبناءه الخمسة نفسه أمام واقع جديد، يفرض عليه دفع أجرة سنة كاملة لقاء منزل جديد في منطقة البرامكة، أجبره على الاستدانة من أقاربه ومعارفه المقيمين خارج البلاد “لستر” عائلته.
يقول أبو مظهر “أنا أفكر جديًا بالهجرة لضمان مستقبل عائلتي، ما عدت أطيق البقاء في الشام”، لكن الرجل لا يلبث أن يتراجع عن أفكاره عندما يتذكر ارتباطات أبنائه الدراسية، وعجزه عن تأمين كلفة الهجرة.
طلب شديد على المساكن
مع ارتفاع حركة النزوح داخل سوريا بسبب اشتداد المعارك العسكرية أصبحت فرص المواطنين بالحصول على مسكن وبسعر مناسب مهمة مستحيلة، إذ يسكن في دمشق اليوم نحو 10 مليون نسمة مقابل 5 ملايين قبل الثورة، كما يقول أبو أمجد، وهو صاحب مكتب عقاري في منطقة المزرعة، بينما تغيب الإحصاءات الرسمية عن عدد النازحين في دمشق وريفها.
وأدى ارتفاع معدلات البطالة إلى 70% وارتفاع معدلات الفقر لنحو 80% إلى انعدام القوة الشرائية للمواطنين، أمام جشع أصحاب المكاتب العقارية وملّاك الشقق السكنية الراغبين بحصد المزيد من الأرباح وسط غياب الرقابة الرسمية من حكومة النظام.
وبحسب أرقام المرصد السوري لحقوق الإنسان، يشكل النازحون داخل سوريا الذين تخطى عددهم الـ 7.6 مليون، إشكالية كبرى تسير بالتوازي مع إشكالية اللاجئين خارج البلاد باعتبار أنّهم يعيشون في ظروف معيشية صعبة وفي مواقع يصعب الوصول إليها.
وطالبت مفوضية الأمم المتحدة وشركاؤها بتوفير مبلغ 5.5 مليار دولار أميركي لعام 2015 للمساعدات الإنسانية والتنموية الدولية، لافتة إلى أنّه لم يتم الحصول إلا على أقل من ربع هذا المبلغ (24%)، ما يعني أن النازحين واللاجئين سوف يواجهون انقطاعًا حادًا وإضافيًا من حيث المساعدات الغذائية، ما سيجعلهم يصارعون من أجل تحمّل نفقات الخدمات الصحية المنقذة للحياة أو لإرسال أطفالهم إلى المدرسة.