عنب بلدي- صالح ملص
مع تقدم السنوات، انتقلت المظاهرات التي بدأت في سوريا عام 2011 من طور الاحتجاج السلمي إلى النزاع المسلح، وتحولت مطالب الثورة من وسيلة لتحقيق تغيير النظام السياسي في دمشق إلى أزمات معيشية يشكو منها السوريون دون إدارة واضحة لحاضرهم أو وجود ضامن لمستقبلهم.
ومن بين الأسئلة التي تطرحها النزاعات بشكل مستمر أسئلة الهوية، والمواطنة، والانتماء، والعدالة والكرامة الإنسانية، وهذه المفردات تستمد أبعادها المعرفية من علمي الاجتماع والنفس، إلا أنها تتأثر معنويًا بالواقع المعاش من خلال القتل، والتهجير، والاعتقال، وتدمير المنازل، وغياب فرص العمل والاحترام، وضياع الحقوق.
هذا التحول في الأوضاع العامة يرافقه تحول في الانتماء إلى صورة سوريا الحضارية القديمة، من التفاخر بها إلى السخرية من تكرار الحديث عنها إلى حد الابتذال، وسط عجز عن تحسين الواقع المتردي أمام أعين السوريين.
“تضخيم” في التعبير عن الإنتاج الحضاري
ينتقد سوريون، في الفترة الأخيرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، أي حديث يحكي عن صورة سوريا بكونها مهد الحضارات القديمة، ويمدح أصالة تاريخها وثقافتها، بسبب ما يحمله هذا المديح من سرد أكل عليه الدهر بين الناس، وابتعاده عن واقع الأزمات التي يعيشها المجتمع السوري، حتى صار الهدف الوحيد لبعضهم هو الهجرة منها إلى أي مكان آخر.
الانتماء لحضارة ما له مدلولاته الثقافية، يتطلب عناصر يجب أن تتوفر من أجل أن تعبر هذه المفردة عن نفسها، وفق ما قاله الباحث المختص بتاريخ سوريا القديم ماهر حميد، في حديث إلى عنب بلدي، أبرز تلك العناصر هي التاريخ والجغرافيا، فمن دون جغرافيا لا يوجد تاريخ ولا تتشكّل حضارة.
والحضارة هي مجموعة الأحداث التي تتراكم مع الزمن، تخص مجموعة بشرية تعيش على بقعة جغرافية محددة تنتج مشاريع لها هوية ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وتتولد من هذا الإنتاج روح الانتماء إلى الوطن وحضارته.
وعند الحديث عن إنجازات سوريا الحضارية عبر التاريخ القديم، فهناك “تضخيم” في وصف هذه الإنجازات، كونه “لا يوجد منتج سوري صرف”، وفق ما يراه الباحث حميد، لأن سوريا لم تتوحد عبر تاريخها القديم كما حدث في العراق أو مصر، ولذلك كانت منجزاتها عبارة عن “منجزات مدن وليست منجزات دول”.
ويضرب الباحث مثالًا لتوضيح وجهة نظره، فـ”لولا الهيروغلوفية والمسمارية لما ظهرت السينيائية، ولولا السينيائية لما ظهرت الأبجدية الأوغاريتية”، وكل تلك التسميات كانت تُطلَق على نظم الكتابة التي استُخدمت في مصر والعراق قديمًا، حتى أنتجت تلك النظم مع الزمن الأبجدية الأوغاريتية، وهي إحدى اللغات السامية التي استُخدمت في مدينة أوغاريت القديمة، في تل رأس شمرا حاليًا قرب مدينة اللاذقية شمال غربي سوريا.
ويعني ذلك، أن ليس كل ما يقال إنه إنتاج سوري هو حقيقي محض، وفق ما يراه الباحث.
التغني بالتاريخ “تهريج”
يتدخل الدستور في صياغة الحضارة ومنظومة القيم عبر الزمن، كونه يحكم كيانها ويسنّ القوانين، ويصون الحقوق ويحدد الحريات، وينظم العلاقة بين الفرد والمجتمع، وبينه وبين الدولة.
تتقلص الحضارة بالاستناد إلى ذلك الوصف في واقع سوريا اليوم، كونه ليس من السهل تطبيق مبدأ سيادة القانون داخلها، حيث تحاصر البيئة الأمنية هذا المبدأ بتقويض الحياة الحقوقية وغياب العدالة في محاكمها.
والتغني بأمجاد الماضي، والتباهي بإنجازات الحضارة القديمة، يراه الباحث التاريخي رد فعل طبيعيًا لما يعيشه الواقع السوري من انهيار إلى درجة الفقر والجوع واللجوء وانعدام المشاريع الاقتصادية المجدية، ضمن ما وصفه بـ”الانكسار الحضاري”.
“عندما تنظر إلى تاريخك الغني مقارنة بتاريخ الجرمان أو الفايكنغ أو حتى الفرس ستجد أنك كنت تتفوق عليهم بكل مناحي الحضارة، وكانوا أشبه بالهمج يوم كان أسلافك يقيمون في مدن حضارية متطورة، فيها مسارح وقضاة وموسيقيون ومحاكم، اليوم أنت بالنسبة لهم الهمجي”، قال الباحث ماهر حميد.
ولا توجد أي جدوى من التغني بحضارات المدن السورية القديمة اليوم، بل على العكس من ذلك، هو “محل للتهكم”، لأن “إيضاح التاريخ علم والتغني به تهريج”، وفق ما يراه الباحث، فـ”ليس لنا نحن الحاليين أي فضل بأن الزراعة اكتُشفت في بلادنا أو الأبجدية وُضعت على أرضنا”.
وتواجه سوريا اليوم بما تحمله مدنها من بعد تاريخي وثقافي تهديدًا بزوال آثارها، بفعل النزاع المسلح الذي تسبب بتدمير جزء من هذا الإرث الثقافي، من خلال القصف أو النهب الممنهجين.
حضارة غيّبها الخوف من السلطة
كلما استمر النزاع في سوريا ضاق الشعور بالانتماء لها أو لحضارة مدنها، بوجود علاقة هشة بين الفرد ودولته، تستند إلى الخوف من السلطة، تهدد هذه العلاقة المضطربة علاقة أغلبية السوريين في الداخل ودول اللجوء مع وطنهم.
صارت صورة سوريا لدى السوريين، خصوصًا في الشتات، مرتبطة بالعنف والألم، وهي المشاعر التي طغت على حياتهم اليومية منذ عام 2011، وفق ما قاله الباحث الاجتماعي السوري حسام السعد في حديث إلى عنب بلدي، وترافق هذا الشعور مع العنف المتصاعد من قبل السلطة ضد المجتمع.
ليس من السهل أن يعثر السوري على الشعور بأهمية الانتماء إلى حضارة بلده مع عدم فهمه أو بحثه عن هذا الانتماء بعيدًا عن الشعارات الرنانة التي تجهر بها السلطة، فمن الطبيعي أن تصير كل إنجازات هذا المكان قديمًا وحاضرًا محل سخرية الناس، لأن اسم سوريا التصق برموز النظام، بحسب الباحث الاجتماعي، ورُبطت الهوية السورية الحالية والحضارية بعائلة واحدة.
وتقلصت صورة سوريا الحضارية تتاليًا لدى السوريين، مترافقة مع تجاربهم في دول الشتات، واختبارهم للعلاقة الصحيحة بين الفرد والدولة، بناء على أسس ديمقراطية، بحسب ما يراه السعد، ومن يعاني في بلده حاليًا من أزمات معيشية، فإن الماضي الحضاري لا يجدي نفعًا في تكريس الانتماء له أو في اعتزازه به.
ولا يقتصر التغني بأمجاد الماضي على الإنجازات الحضارية القديمة، بل يعيش سوريون حالة من الحنين لفترة الخمسينيات من تاريخ سوريا، كونها شهدت في ذلك الحين تداولًا للسلطة بين عدة شخصيات، إذ وصل عدد من تولى الحكم من عام 1922 (بعد الانتداب الفرنسي بعامين) وصولًا إلى عام الوحدة مع مصر 1958، إلى 12 رئيسًا، بمن فيهم أصحاب الانقلابات العسكرية.
وتستند المجتمعات إلى حضارتها وإرثها الثقافي في نهضاتها الآنية، وهذا صار غائبًا لدى السوريين الذين هُمّشوا خلال سنوات حكم حزب “البعث” لسوريا منذ السبعينيات، وفق السعد، إذ إن التاريخ ينطلق من لحظة حكمه، وتكرّس ذلك في المناهج الدراسية ووسائل الإعلام.
وابتعاد السوريين عن الانتماء لحضارة بلدهم بفعل ما يعانونه في الواقع من أزمات معيشية قاسية، وتشكّل هوية سوريا لدى السوريين في الخارج فقط من خلال المرويات الشفهية التي تقدمها لهم عائلاتهم، يسبب “خطورة كبيرة وينذر بخلق شخصية سورية سلبية مقطوعة العلاقة مع تراثها الثقافي”، وفق ما نوه إليه الباحث الاجتماعي.
ويحتاج السوريون للمحافظة على انتمائهم لحضارة بلدهم إلى جمعيات وتنظيمات اجتماعية مختلفة الخلفيات الثقافية، تضع في حساباتها وجدول أعمالها التعريف بحضارة وإرث سوريا الثقافي، وفق ما أوصى به الباحث الاجتماعي، والسعي لفك الارتباط بين سوريا كهوية وبين النظام السوري، أي إنهاء العلاقة بين الوطن والسلطة السياسية، بحيث تتكرس فكرة الوطن المتعالي عن أي تيارات أو سلطات سياسية في ذهن الأفراد.
وسيادة القانون هي الضامن الأكبر للحفاظ على الانتماء للهوية السورية الحضارية، فالسوريون يبحثون عن أوطان موازية في رحلة هجرتهم من بلدهم، كي يعيشوا ضمن مساحة من الحرية دون خوف من السلطة، ومن خلال سيادة القانون يتحقق مبدأ العدالة والمحاسبة، وانعدام التمييز وصون الحقوق.