إبراهيم العلوش
الموسوعة الفلاحية والسياسية “فلاحو سوريا: سليلو الوجهاء القرويين الأقل شأنا، وسياستهم” التي كتبها حنا بطاطو، ليست مجرد كتاب، بل مرجع أساسي لفهم التاريخ السوري الحديث، وربما ترشدنا إلى فهم المأساة التي نعيشها اليوم.
يتناول الكتاب وضع الفلاحين السوريين، ويركز على النقلة النوعية التي غيّرت حياتهم مع قانون الإصلاح الزراعي في دولة الوحدة وفي دولة البعث، حيث تحوّل كثير من الفلاحين إلى مالكي الأرض التي يعملون بها، ويعتبر الكاتب أن آخر تطبيق للإصلاح الزراعي كان في عهد صلاح جديد، الذي كان مبدئيًا في المسألة الفلاحية، أما حافظ الأسد فكانت كل خطواته مصلحية، وأسهم بإنشاء تحالف مع تجار المدن، وقد حوّل البعث في عهده إلى ما يسمى البعث الأسدي، وصفّى كل الفاعلين من حوله، وبدأ بترسيخ عبادة الفرد.
يتناول الكتاب في جوانب كبيرة منه تجليات وجهاء البعث، وسلوكهم بعد الاستيلاء على السلطة وتحوّلهم من أبناء فلاحين مهمشين إلى متحالفين مع تجار المدن، ويورد تحالف حافظ الأسد مع غرفة تجارة دمشق وغيرها، حيث استعمل تلك التحالفات في حربه ضد “الإخوان المسلمون”، وكانت تلك الحرب مبدئية بالنسبة له، لأنه يرفض أي مطالب سياسية من قبل السوريين، كما يقول حمود الشوفي، الأمين العام للبعث الذي نقل على لسان الأسد قوله، إن السوريين يحلمون ببيت وسيارة، أما السياسة فلا يهتم بها إلا بضع مئات تنتظرهم السجون.
ويتناول الكتاب جوانب كثيرة من اهتمام الأسد بالعداء ضد ياسر عرفات والتنظيمات الفلسطينية عمومًا التي ترفض الرضوخ له، إلى حد أنه ارتكب جرائم بشعة وهو يلاحقهم، بالإضافة إلى تورطه في لبنان بدفع من هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأكثر مكرًا. ولعل ذلك التدخل هو ما درّب الجيش الأسدي على جرائم الحرب، والجرائم الطائفية التي يقوم بها اليوم بلا أي وازع من ضمير أو من قانون إنساني أو دولي.
السؤال الذي يتبادر إلى الذهن في نهاية قراءة هذا الكتاب، هو من أين نبعت هذه الوحشية التي نكابد نتائجها الكارثية، هل الفلاح السوري الذي حارب الجوع والفقر والاستبداد والطبيعة القاسية كان يتوقع أن يقوم بعض أبنائه بالارتداد إلى الوحشية؟
لقد حارب الفلاح السوري الإقصاء من قبل الدولة العثمانية وجيشها الانكشاري، ولكن حافظ ورفعت الأسد وعلي دوبا وأعوانهم أعادوا الانكشارية وبأبشع صورها، وحوّلوا الجيش السوري إلى عدو للشعب، ومصدر الخراب لكل جهود الفلاحين الذين عملوا وكافحوا من أجل أن تتطور عائلاتهم ومن أجل الكف عن احتقارهم من قبل الإقطاع ومن قبل بيروقراطية المدن.
قامت دولة البعث التي قادها أبناء الفلاحين والمهمشين باستبعاد السوريين وتهميشهم من جديد، وصار التعذيب مصدر فخر واعتزاز في دولة الأسد، رغم أن الأسد كان خطيبًا بليغًا في الديمقراطية، كما يقول حنا بطاطو، ولكنه يفعل عكس ما يقوله، وهو كذلك كان بليغًا بالخطاب القومي، ولكن رفعت الأسد وعلي دوبا وقادة الجيش كان حسهم الطائفي فوق كل البروباغندا التي يلقيها حافظ الأسد في خطاباته القومية الشاملة!
يورد الباحث عشرات الجداول عن الأصول الفلاحية لقادة الجيش وقادة الدولة، وعن الأصول الطائفية لكل الزعماء منذ بداية ثورة البعث 1963 وصولًا إلى الذين كانوا يساعدون الأسد في إدارة الكيان الذي بناه ضد إرادة السوريين، وأسماه سوريا الأسد، وقد وصل الأمر اليوم إلى أن القادة الـ40 الأوائل في الجيش هم من أقارب الأسد ومن عشيرته وأنسبائه كما تقول جداول مركز “عمران للدراسات” عن الجيش السوري.
يتحدث الكاتب عن الحزب “الاشتراكي العربي” الذي بناه أكرم الحوراني في حماة وريفها وكان من أهم الأحزاب الفلاحية في سوريا، وقد انضم هذا الحزب إلى حزب “البعث” في عام 1952 ليلد الاسم الكامل حزب “البعث العربي الاشتراكي”، ولكن المؤلف يقول إن الشخصيات الفاعلة في حزب الحوراني رفضت الانضمام إلى التكوين الجديد، فقد ظل ولاؤهم لشخص أكرم الحوراني نفسه، والحوراني كما هو معروف طُرد خارج سوريا، كما فعل حافظ الأسد بكل من تحالف معه أو مع حزبه أو من ساعده، فهو يعدّ العدة له بالقتل أو بالاعتقال أو المنفى، والأمثلة أكثر من أن تُحصى في سيرة حافظ الأسد، ومنهم صلاح جديد وميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار ونور الدين الأتاسي، وصولًا إلى عبد الحليم خدام ومصطفى طلاس الذين غاصوا بالمذلة حتى الدرك السابع ولم يشفع لهم ذلك.
فلاحو سوريا الذين كانوا يشكّلون 80% من نسبة السكان، هم الذين بنوا ازدهارها بجهدهم وعرقهم وبنوا أخلاق العمل والإخلاص للعائلة والمجتمع، فلماذا استسهل بعض أبنائهم الوحشية ونهب المال العام وإعادة بناء الجيش بشكل انكشاري؟
سؤال يحيلنا إلى إعادة قراءة كتاب حنا بطاطو والبحث بين السطور عن منابع الانهيار، هل كان الانتقام هو ما يحرك هؤلاء الأبناء؟
لا أظن أن كلمة الانتقام كافية لتفسير هذه الوحشية وهذا الانهيار الأخلاقي والوطني، فالفلاحون الذين عانوا من الجوع ومن القهر صبروا حتى تغلبوا على إقطاعييهم وأعادوا بناء أنفسهم وعائلاتهم، وعلّموا أبناءهم مستبشرين خيرًا في جعلهم أطباء ومهندسين وضباطًا، وموظفي حكومة، وقضاة، ومثقفين، ورجال دين، لقد موّلوا تعليمهم بالعمل اليومي الشاق الذي يهوّنون قسوته بالحلم والأمل.
ولكن لماذا تخرّج هؤلاء الضباط من كلياتهم الحربية وهؤلاء المسؤولون بهذه الكراهية للمجتمع، وارتدّوا إلى عقلية الإقطاع الذي كان يعذب آباءهم وأجدادهم، وصاروا يعذّبون أبناء الفقراء من أمثالهم، وصاروا يخدمون الطبقات المدينيّة الغنية بكل تملّق في دمشق وحلب وغيرهما من المدن التي كانت تدار تاريخيًا بأيدي التجار؟
هل فقدان الأبناء لأخلاق العمل والإخلاص هو ما حطّم قشرة التطور الرقيقة في عقولهم وفي ضمائرهم، وحوّلهم إلى صنّاع لهذا الدمار الذي تتعاون كل الأطراف على إنجازه من ضابط المخابرات الذي يدير أقبية التعذيب ويروّج لشعارات التخوين، وصولًا إلى رجل الدين الذي ينفث سمًا وتكفيرًا.
لقد استولت هذه الفئة من أبناء الفلاحين على كل ميراث آبائهم، وأعادوا تصنيع البلاد وفق سلسلة معكوسة، مندفعين إلى أعمال التهور والعبث، حتى الأغاني الريفية الجميلة أعادوا استثمارها في “الكباريهات” وفي “المرابع الليلية” ليكسبوا المال والجاه السريع بدلًا من تطويرها والبناء عليها لإنجاز فن راقٍ ومتطور ينافس فنون الأمم الأخرى.
ضحايا هذه الفئات هم أيضًا من أبناء الفلاحين السوريين وهم من يضحون من أجل هذه الثورة، ولم يرضوا بإعادة سيرة الظلم التاريخي للفلاح السوري وتمديده ليشمل كل فئات الشعب السوري الذي تحوّل من جديد إلى “مرابع” في مزارع الأسد وعائلته.
ما الخلل الذي حصل بعد أن استثمر الفلاحون أراضي الإصلاح الزراعي في الستينيات، وطوّروا الزراعة وحسّنوا حالهم، لماذا ارتد الجيل التالي إلى هذا المستوى من القسوة، هل الطائفية هي الجواب، هل الانتقام الاجتماعي هو الجواب؟
ما الجواب الصحيح الذي يجعلنا نفهم ما فعله أبناء وطننا بنا، وإذا كان الجواب، إنها الحرب الأهلية، فهو جواب مستبعد، فكل الشعوب خاضت حروبًا أهلية ضد بعضها ولم تمارس الإبادة الجماعية بهذا الشكل إلا في أدغال إفريقيا!
يحتاج الأمر من مختصينا الاجتماعيين إلى إعادة دراسة المجتمع، والاستفادة من انكشاف أرشيفات المخابرات التي تحتوي على أسرار المجتمع السوري، ونقاط تحريكه، وطرق السيطرة عليه، التي مارسها حافظ الأسد وزمرته طوال العقود الماضية، رغم أن تلك النقاط فلتت من أيدي وريثه، واستولى عليها الإيرانيون والروس وغيرهم من المحتلين الذين يديرون الشأن السوري اليوم، ويهمّشون السوريين سواء بمودّة أو بوحشية.
صدر كتاب “فلاحو سوريا: سليلو الوجهاء القرويين الأقل شأنا، وسياستهم” عام 1999 بالإنجليزية، قبل عام من وفاة كاتبه الفلسطيني الأصل حنا بطاطو (1926- 2000)، ولكن لم يُترجم إلى اللغة العربية حتى عام 2014 عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات”، سلسلة “ترجمان”، وقد قام بالترجمة كل من عبد الله فاضل ورائد نقشبندي.