محمد السكري
طالبت الحاضنة الشعبية التي أيّدت الثورة في سوريا منذ انطلاقتها منتصف آذار 2011، على مدار عشر سنوات، المعارضة بكل تشكيلاتها وتوجهاتها العسكرية والسياسية بالتوحد لتحقيق التطلعات الوطنية، ولا شك أنّ أهم وسيلة لتطبيق هذه الغاية هي التنظيم، الذي يُعرف على أنه قوننة العمل وتوحيد الغايات والرؤى عبر صياغة المشتركات والتطلعات تمهيدًا لتحويلها إلى أهداف تلتزم بها المجموعة وفق محددات النظام الداخلي الذي يُصاغ بناء على توافق عام.
استجابت المعارضة السورية السياسية لهذه المطالب، بغض النظر عما إن كان ذلك نتيجة ضغط دولي أو تلبية لرغبات الشعب السوري، بعدما قامت بإنشاء “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” الذي اعترفت به “سياسيًا” أكثر من 110 دول حول العالم بما يُعرف بـ”مجموعة أصدقاء سوريا”. على هذا الأساس، اتجهت المعارضة السياسية لتوحيد وتنظيم نفسها ضمن هذا الجسم، وأقرت، في 11 من تشرين الثاني 2013، نظامها الداخلي.
وبعد ما يُقارب ثماني سنوات على ولادة “الائتلاف”، ما زال يعاني بشكل كبير على مستويات عدة، منها الداخلية، كالقيادة، وإدارة الخلاف، وتوحيد وجهات النظر، والتوافق، والعمل لغايات وطنية، وبناء المؤسسة، والتعيين (التمثيل)، والتواصل، وغيرها، ومنها الخارجية على مستوى العلاقة مع مؤسساته كـ”الحكومة السورية المؤقتة”، وليس نهاية بملف التفاوض.
عدا أن “الائتلاف” يُعاني أصلًا من مشكلة فهم المهام الأساسية والأهداف التي قام لأجلها. على سبيل المثال، يُعرّف “الائتلاف الوطني” نفسه على أنه كيان وطني عابر للأيديولوجيا، مهمته تكمن بالتفاوض للوصول إلى العملية الانتقالية المنشودة، وعندها سيعتبر نفسه منحلًا، أي أنّه سيكون جزءًا من العملية التفاوضية مع النظام السوري.
ولكن، بالنظر إلى المهام التي يقوم بها، يُلاحَظ أنّ “الائتلاف” تجاوزها، وتحوّل إلى شبه سلطة سياسية وقانونية مختلطة “تنفيذية- تشريعية”، ما يُشكّل تعارضًا كبيرًا بين الأهداف التي قام لأجلها “الائتلاف” والمهام التي يقوم بها حاليًا.
أيضًا، نصّ النظام الداخلي في المادة “27” على مهام “الحكومة السورية المؤقتة”، باعتبارها مؤسسة تنفيذية تتبع لأخرى تشريعية. هذا يشير إلى فقدان “الائتلاف” البوصلة الأساسية التي قام لأجلها، فهل “الائتلاف” دولة؟ أم أنه مجرد مؤسسة سياسية تعنى بالعمل التفاوضي المرحلي؟
بُنية مُضطربة:
من الواضح أن “الائتلاف” يعاني من قلّة أو غياب الانسجام الداخلي، جراء الخلل الكبير على مستوى تمثيل المكونات المختلفة والمتباينة فكريًا وأيديولوجيًا والتأثير الدولي عليه، ما تسبب بنشوب أزمة داخلية وأدى إلى ولادة مجموعات متنازعة ومتنافسة، مثل مجموعة “G4″، والمجموعة المحسوبة على نصر الحريري، وغيرهما. ما عدا الخلافات بين مؤسسات “الائتلاف” نفسها مع “الحكومة السورية المؤقتة” والتنافس وتداخل المهام بينهما.
وقد تحوّل “الائتلاف” من منصة أساسية قامت بهدف التفاوض إلى تكتل سياسي يُشكّل أحد مكونات “هيئة التفاوض”، بعدما أضاع فرصة انفراده في تمثيل المعارضة السورية خلال مفاوضات جنيف حتى عام 2015، وهو تاريخ تأسيس “الهيئة العليا للمفاوضات”.
كذلك، يفتقر “الائتلاف” لوجود آليات واضحة لصنع القرار بشكل كبير. يبدو قرار رئيسه نصر الحريري نهاية عام 2020 بإنشاء “مفوضية الانتخابات” مثالًا على ذلك، وهو ما تسبّب بسخط شعبي كبير، واستياء داخل “الائتلاف” نفسه، حيث عبّر الكثير من الأعضاء عن استغرابهم واعتراضهم على القرار الذي لم يكن لهم علم به إلا من خلال وسائل الإعلام. هذا يشير إلى مدى المشكلات التنظيمية التي يعاني منها على مستوى التواصل وصنع القرار.
من الواضح أن هناك اتجاهًا داخل “الائتلاف” يقوم، أحيانًا، على التفكير الفردي دون الجماعي، وعدم الالتزام بالقوانين الناظمة التي نصّ عليها النظام الداخلي، كالبند رقم “13” في الفقرة “ب” التي نصّت على عدم جواز القيام بأي عمل باسم “الائتلاف” دون تكليف رسمي مسبق.
بالعموم، لدى قراءة النظام الداخلي لـ”لائتلاف”، يُلاحَظ مدى الاستنساخ الذي حدث لكثير من بنوده ومواده دون تفهّم السياقات المرحلية التي مرت بها الثورة السورية، بكل تأكيد من المهم قراءة التجارب الأخرى والاستفادة منها طالما أنها ستصب في النهاية في مصلحة تطوير المؤسسة، وهذا ما لم يحدث في “الائتلاف”.
مع أن النظام الداخلي خضع لأكثر من 12 تعديلًا خلال سبع سنوات ونصف من إنشائه، وفي حال اعتبرنا وفق المهام التي يقوم بها “الائتلاف” أنه دولة، فلم يخضع أي دستور من دساتير سوريا الخمسة عبر التاريخ لهذا الكم من التعديلات خلال هذه الفترة الوجيزة، ما قد يُدلّل على الارتباك وغياب الكفاءة وضعف الأداء الذي يعاني منه هذا الجسم بصفته أبرز مؤسسات المعارضة.
بالتالي، إن كانت لدى “الائتلاف” الرغبة في حل مشكلاته التنظيمية، عليه قبل أي شيء أن يُعيد النظر في آليات تواصله، ونظامه الداخلي بصفته الحجر الأساسي في بناء هذه المنظومة، ويرفع حجم التمثيل ليشمل جميع المكونات السورية على اختلافاتها، لا سيما عنصر الشباب، ويبدأ بوضع خطط سنوية واضحة تسهم في تعزيز حضوره على المستوى الشعبي والدولي.
توافق أم ديمقراطية:
ما زالت مؤسسات المعارضة السورية تفتقر لفهم الأسس التي من المفترض أن تتبناها في بناء منظومتها، فركزت منذ التأسيس على الشعارات الظاهرية بدلًا من قراءة المشهد السياسي بشكل دقيق والبناء عليه، فاعتمدت مفاهيم الديمقراطية والتداول على أساس الانتخاب، كآلية الوصول إلى إدارة وقيادة مؤسساتها كـ”الائتلاف الوطني”، على الرغم من أنّ هذا لم يتحقق خلال فترة عشر سنوات من الثورة، فكل الممثلين داخل “الائتلاف” لم يأتوا على أساس الانتخاب بل الانتداب والتمثيل النسبي بناء على التوافق، كذلك من هم في دائرة صنع القرار. يمكن القول إن وصول أنس العبدة ونصر الحريري لرئاسة “الائتلاف”، والتحضير لتسلّم سالم المسلط الرئاسة الحالية، يعتبر نموذجًا توافقيًا وليس ديمقراطيًا.
بات “الائتلاف” يفتقد بشكل واضح لتفسيرات أساسية كتعريف نفسه، وآليات عمله، وأهدافه والشخصيات التي من المفترض أن تشغل مناصب الإدارة، بينما تتطلب ظروف المرحلة قيادة من خبراء غير منتخبين (تكنوقراط) أكثر بكثير من الانتخاب الذي قد يفرز أشخاصًا غير قادرين على الوصول بالمعارضة السورية إلى مطالبها.
عودة “الائتلاف” إلى التفكير بتبني التوافق كآلية عمل قد يؤدي لإحداث خلل تنظيمي، فكان من المفترض اعتماد ذلك منذ البداية. بالتالي لا يبدو أن هناك الكثير من الخيارات المتاحة له للخروج من هذا الارتباك.
بالمحصلة، لم ترتقِ معظم مؤسسات المعارضة السورية لتمثيل مطالب المحتجين السوريين، حتى صار وعي الشعب أعلى من وعي النخب. يقصد بالوعي طبيعة التعاطي مع مفاهيم، مثل الانتخابات الديمقراطية، والتوافق (الكفاءات)، وتعاون المؤسسات، وآليات الحوكمة، والمواطنة.
بالتالي، سيؤدي ذلك حتمًا إلى مزيد من فقدان الثقة بين الطرفين، ومن ثم البحث بشكل جدي عن أدوات تسهم في تشكيل بديل تمثيلي، في الوقت الذي يتم فيه أصلًا البحث عن بدائل بشكل محدود. مثال ذلك، تشكيل “الهيئة الوطنية السورية” نهاية عام 2020، التي قدمت نفسها بديلًا عن “الائتلاف”، واعتمدت بشكل أساسي على بناء الثقة بينها وبين الحاضنة الشعبية عبر استقطاب شخصيات سياسية وعسكرية واجتماعية وقانونية تحظى بقبول نسبي لدى الرأي العام.
ومع ذلك، لا يُمكن تصنيف نموذج الهيئة بالمثالي، لأنها عوّلت على استثمار النخب في تشكيل الحوامل المجتمعية في حين أغفلت أهمية إقامة شبكة من العلاقات الإيجابية مع الدول المؤثرة التي قد تكفل لها الرعاية، ما سيوفر لها خدمات تسهيل الظهور والحصانة الدولية.
في المحصلة، يفتقد “الائتلاف الوطني” إلى المبادرة والبحث عن شركات سواء على المستوى المحلي أو حتى على المستوى الدولي، فقد غيب بشكل غير مبرر قادة الرأي العام عن المشهد السياسي، وهذا ما أفقده أهم أدوات التواصل وبناء القواعد الاجتماعية، وأبقاه مؤسسة مترهلة عاجزة عن إعادة إنتاج نفسها ومواكبة المطالب الشعبية الآخذة بالازدياد.