عنب بلدي – أمل رنتيسي
قُتل جراء التصعيد العسكري من قبل قوات النظام السوري وروسيا على مناطق شمال غربي سوريا، منذ حزيران الماضي، 65 مدنيًا بينهم نساء وأطفال، وسط تفاعل دولي خجول وغياب تحركات رسمية من تركيا، التي تعتبر، إلى جانب روسيا وإيران، الضامن لاتفاق “أستانة” الذي ينص على فرض التهدئة في منطقة “خفض التصعيد”.
نتيجة التصعيد، نزح أكثر من أربعة آلاف و300 مدني معظمهم من قرى ريف إدلب الجنوبي، بين مطلع حزيران و25 من تموز الماضيين، بحسب بيان أصدره فريق “منسقو استجابة سوريا”، الذي وثّق في المدّة المذكورة 791 خرقًا لاتفاق وقف إطلاق النار.
ولم يكن لأهالي مناطق الشمال الغربي سوى الخروج بمظاهرات منددة كأحد عوامل الضغط الممكنة لإيقاف القصف.
وخرج مئات المحتجين أمام النقاط التركية في جبل الزاوية، وأحرقوا إطارات مطاطية قرب نقطة معترم التركية بريف إدلب لمطالبة تركيا بالتحرك ضد استهدافات النظام وروسيا، واحتجاجًا على ما اعتبروه عدم التزام تركيا بمسؤولياتها تجاه وقف قصف النظام السوري المستمر لمدن وقرى ريف إدلب.
المظاهرات.. رسائل للأطراف المحلية والدولية
شاركت في المظاهرات بمناطق إدلب فعاليات ومكونات مختلفة في المنطقة، وذكرت صفحة “تجمع الناجيات” على “فيس بوك”، وهو تجمع مدني مستقل للناجيات من سجون النظام السوري، أن العشرات من النساء في إدلب شاركن بوقفة تندد بالمجازر التي يرتكبها النظام السوري، سواء في جبل الزاوية شمالًا ودرعا جنوبًا.
ووجهت النساء صوتهن إلى المجتمع الدولي ليقلن إن “المدنيين السوريين هم الذين تُرتكب بحقهم المجازر”.
الباحث السياسي في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” معن طلاع، قال في حديث إلى عنب بلدي، إن المظاهرات توجه رسائل لأطراف متعددة على رأسها النظام السوري وروسيا، وهي أن سكان المنطقة متمسكون بالأرض وخيار مقاومة الاحتلال الروسي وقصف النظام، وهذه الرسالة أساسية واستراتيجية لإعطائها إشارة مهمة للأطراف الفاعلة بوجود شعب حيوي رافض للوجود الروسي، وإن كانت دلالاتها معنوية أكثر منها مادية.
كما أنها أيضًا رسائل للطرف التركي والأطراف الدولية التي تتعاطى اليوم مع ملف إدلب “بشيء من السلبية وبشيء من التغاضي”، حسب طلاع.
توقيت القصف.. لماذا الآن؟
أشار طلاع لعنب بلدي إلى سبل الحد من عمليات القصف، التي “تحكمها معادلات أمنية دقيقة”، موضحًا أن هناك مستويين من الفاعلية، الأول متعلق بالفاعل الروسي والتركي، والثاني متعلق بالفاعل الأوروبي والدولي.
وصارت منطقة “خفض التصعيد” منذ عامين تقريبًا أسيرة مفاوضات تقنية- عسكرية على مستوى وزارات الدفاع الروسية والتركية تخللها الفشل في أغلب الأحيان، ثم تنتقل هذه المفاوضات إلى مستوى سياسي تُثبَت من خلالها عملية “القضم”، وفق طلاع.
اتبعت قوات النظام السوري “سياسة القضم” خلال السنوات الماضية، وتقوم على تجزئة جبهات القتال والسيطرة عليها بشكل متتابع، متسلحة بالكثافة النارية والغطاء الجوي، في حين لم تستطع فصائل المعارضة إيقاف هذه السياسة، واتبعت أسلوب شن غارات على مواقع النظام، وتنفيذ عمليات تفجير عربات مفخخة بهدف استنزافه. |
وأضاف طلاع أنه بعد عملية “القضم” الأخيرة التي وصلت إلى سراقب (على الطريق الدولي حلب- اللاذقية)، كان هناك ثبات في خطوط الجبهات، لكن اليوم يحاول الروس بعد عدة متغيرات، منها متغير الانتخابات التي أجراها رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في أيار الماضي، ومتغير الوصول إلى المعابر الإنسانية، أن يستمروا في عملية الضغط.
وإلى الآن ما يجري من عمليات قصف هي رسائل روسية، فالقصف يطال أغلب الأحيان البنى المحلية أكثر ما يطال بقية الأهداف الاستراتيجية الأخرى، وهو أيضًا لاختبار الموقف التركي وجاهزية الأطراف المحلية.
أما المستوى الثاني فهو المجتمع الدولي الذي ينظر إلى ملف إدلب كملف من المرشح أن يخلق موجة لاجئين جديدة، وبالتالي يتعاطى معها من زاوية “ضغوطات ناعمة” إلى حد بعيد، وهذا ما تكلل بنجاح تمرير القرار المعني بإيصال المساعدات.
من جهته، قال المحلل العسكري العقيد زياد حاج عبيد لعنب بلدي، إن الروس أرادوا إعطاء النظام جرعة جديدة من أجل إثبات نجاح السياسة الروسية في المنطقة وإعادة تعويم الأسد من مبدأ القصف من أجل تهجير أهالي جبل الزاوية واقتحامها، لأن النظام والروس يعرفون أنهم لا يستطيعون كسب هذه المعركة إلا بعد تهجير سكان المنطقة، فطبيعتها تعطي المدافع قوة وصلابة، وستكون خسائر النظام كبيرة.
وعسكريًا، يرى المحلل العسكري العقيد زياد حاج عبيد، أن على فصائل “هيئة تحرير الشام” العاملة في إدلب وريفها و”الجبهة الوطنية للتحرير” المنضوية ضمن “الجيش الوطني” شن هجمات في عمق أماكن سيطرة النظام السوري وضربها، واستخدام صواريخ “الغراد” لتدمير المقرات المتقدمة، ونقل المعركة من مرحلة الدفاع إلى حالة الهجوم.
وأضاف حاج عبيد أن الحالة المعنوية العالية لمقاتلي المعارضة، والحالة المتدنية لقوات النظام السوري، من الممكن أن تسمح للفصائل المسلحة بردع النظام.
مؤشرات ضعيفة لوقف التصعيد
أوضح الباحث معن طلاع لعنب بلدي أن الأسباب الدافعة لوقف القصف هي أسباب لا تتوفر مؤشراتها في المدى المنظور، إذ لا توجد سوى مساحة صغيرة لتوافق القوى الأمريكية والروسية، على اعتبار هذا التوافق هو المظلة الرئيسة لحل الأمور.
وهذه المساحة خُلقت في الاتفاق الأخير من خلال قرار مجلس الأمن في موضوع المساعدات الإنسانية عبر الحدود، الذي مُدّد بموجبه تفويض إيصال المساعدات عبر معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا.
لكن برأي الباحث، فمساحة المفاوضات لا يعوّل عليها لأنها لا تزال ضمن مبدأ دفع الكرة إلى الأمام دون إنجاز أي توافق سياسي.
وبحسب طلاع، فالمساحات أيضًا تضيق لأن التوافقات الأمنية في عموم سوريا بلغت حدًا يراعي الشرط الإقليمي أكثر من الشرط المحلي، كما أن الانتقال إلى توافق سياسي هو أمر صعب جدًا، ولذلك فتغيير الحدود الأمنية المتشكلة سينتظر تغييرًا سياسيًا، وهذا التغيير مغيّب وبالتالي يجعل عملية إيقاف القصف أسيرة الدائرة الأولى، وهي الدائرة التركية والروسية.
أما وسائل الضغط المحتملة، فيجب أن تتمثل بمجموعة من الأفعال السياسية والدبلوماسية كحملات مكثفة للفاعلين السياسيين، كما على ممثلي مجلس الأمن والمبعوث الدولي تقديم الإحاطات السياسية وإقامة مؤتمرات صحفية وحملات دبلوماسية.
ويجب التفاوض مع الجانب الروسي في أماكن محددة ومساحات يجب العمل عليها، وعدم تركها فارغة للحد من التصعيد العسكري.
إلّا أن هذا المشهد يتطلب ضرورة التنظيم السياسي المحلي، ما يجعل إيصال رسائل التفاعل أكثر ضغطًا وفاعلية، وعدم الاكتفاء بمظلة “الائتلاف” فقط لأن هذه المهام كبيرة يفترض أن تكون فيها مجموعة فاعلين سواء كانوا خارجيين أو داخليين.
أربعة محددات للموقف التركي تجاه إدلب
يرى الباحث السياسي معن طلاع أن هنالك أربعة محددات تتعامل فيها تركيا مع ملف إدلب، أولها:
تمثل إدلب بالنسبة لتركيا نقطة دفاع متقدمة عن مناطق حيوية ذات أثر أمني عليها، خاصة بعد عمليتي “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، وإنهاء فكرة التواصل “الكانتوني” لـ”الإدارة الذاتية”.
وفي هذا السياق، طالما هنالك وجود لحزب “الاتحاد الديمقراطي” (PYD)، الذي يعتبر الجناح السوري لحزب “العمال الكردستاني” المحظور والمصنف إرهابيًا في تركيا، سيكون ملف إدلب استراتيجيًا لتركيا.
ومن جهة أخرى، ومن محددات الموقف التركي عدم الانزلاق إلى حرب مباشرة مع الأطراف الأخرى سواء الطرف الروسي ومن خلفه النظام، لأنها تبعثر الأوراق وتنقل مستوى القتال من الجغرافيا السورية إلى بلاد أخرى، لذلك تريد دائمًا تركيا أن يكون هناك مجال للتفاوض.
المحدد الثالث هو أن تركيا تمارس سياسة “َضبط النفس” والاكتفاء بالاستعدادات الاستراتيجية للاقتحامات، فطالما أن عملية القصف لم تلحق باقتحامات سيبقى الطرف التركي صامتًا.
أما المحدد الرابع فهو طبيعة الوجود التركي، وهذا ليس بكثافته أو نوعيته بقدر تعريف هذا الوجود كنقاط مراقبة، ولعل نموذج مورك قد يكون نموذجًا ذا انطباع سلبي على النموذج المحتمل المتوقع في حال تدهورت الأمور إلى مساحات أكثر اصطدامًا في المدى القريب، حسب طلاع.
وكانت القوات التركية أتمت انسحابها من نقطة المراقبة بمنطقة مورك بريف حماة الشمالي، في تشرين الأول عام 2020، التي كانت أكبر نقاط المراقبة التركية.
ولذلك، فالموقف التركي في هذا التوقيت هو موقف دقيق وحذر، وأي مبادرة لرد فعل سواء كانت الدفاع عن طريق الهجوم أو حتى بالرد على القصف الصاروخي سيبعثر الأوراق مرة أخرى من جديد.
وتوقع الباحث أن هذا يجعل فهم الموقف ذاهبًا باتجاه خلق منصة مفاوضات قد يكون عنوانها العوامل الاقتصادية أو تنفيس الضغط، أو حتى عبر إنجاز اتفاق وقف إطلاق نار جديد بتفاهمات جديدة ستطول أو تقصر، لكن المساحة الأكثر توقعًا وفق حركية الأتراك هي المفاوضات من جديد، وهذا لا ينفي في مكان ما إذا تدهورت الأمور أن يكون سيناريو “قضم” جزئي.
وكانت قوات النظام مدعومة بالقوات الروسية والميليشيات الإيرانية سيطرت على مدن وبلدات في أرياف حماة وحلب وإدلب، نتيجة الحملات العسكرية المتتالية، بدأت في شباط 2019 وانتهت بتوقيع اتفاق “موسكو” الذي اتفق بموجبه الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ونظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في 5 من آذار 2020، على وقف إطلاق نار.
كما نص الاتفاق على تسيير دوريات مشتركة بين الطرفين على الطريق الدولي حلب- اللاذقية (M4)، بين قريتي الترنبة شرقي إدلب وعين حور بريف إدلب الجنوبي الغربي، وإنشاء ممر آمن شمال وجنوب الطريق.
ولم تلتزم قوات النظام وروسيا بوقف إطلاق النار، إذ تشهد مناطق ريف إدلب الجنوبي مجازر بحق عائلات مدنية من سكان المنطقة، كان من أبرزها استهداف قوات النظام بالمدفعية الموجهة الأحياء السكنية في قرية بيلون جنوبي إدلب، في تموز الماضي، ما أدى إلى مقتل وجرح أكثر من عشرة مدنيين من عائلة واحدة.