“السر الحارق”.. تصوير أنيق لعالم العلاقات البشرية الفوضوي
تحمل العلاقات البشرية وأساليب بنائها الكثير من التعقيدات المبنية على طبيعة العلاقة القائمة أو المنشودة، فالعلاقات الندّية التي يتساوى فيها طرفان أو عدة أطراف تختلف ببنيتها عن العلاقات التي ينقسم فيها أطراف العلاقة بين أقوى وأضعف، وما إلى ذلك من الفوارق التفاضلية.
وفي العلاقات العاطفية، ورغم احتمالية وجود اختلافات اجتماعية ومادية وعلمية، قد تكون كبيرة أحيانًا، فإن هذه العلاقات تقوم على شيء من الندّية، باعتبار أن كل طرف يرى في الآخر حلقته الضائعة، والجزء المفقود من نصه، أو هكذا يفترض.
والكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، يحاول ضمن رواية “السر الحارق” تقديم تصوير أنيق ومرتب للعلاقات البشرية بفوضويتها وتناقضاتها وعدوانيتها الهادئة، وتقريب هذه المفاهيم الاجتماعية بعاطفتها والدوافع الخفية وراءها، هذه الدوافع التي تكوّن السر الحارق أصلًا.
في الرواية ثلاث شخصيات فقط تشكّل محور الموضوع، وهذه إحدى ميزات أعمال زفايغ التي تريح القارئ من عناء حفظ الشخصيات، فالقليل منها ومن الأسماء يكفي لسرد الكثير من الأحداث وإيصال الكثير من الأفكار والرسائل.
تبدأ الحكاية برحلة يقضيها “البارون” وهو رجل أنيق الهيئة، رفيع المستوى الاجتماعي، بمفرده في أحد الفنادق، ما يوقظ داخله شبح الوحدة، فيندفع لبناء علاقة ما يستهدف بها سيدة مقيمة في الفندق.
السيدة التي وضعها “البارون” نصب عينيه امرأة متزوجة وتقيم في الفندق مع ولدها الذي يقضي رحلة علاجية، فيبني “البارون” خطته على التقرب من الطفل أولًا، وإقامة صداقة هشة لا يقبلها المنطق بين الرجل النبيل والطفل الصغير، في سبيل الوصول إلى السيدة.
ولتحقيق التقارب المنشود مع السيدة، يضع “البارون” خططه ويرمي شباكه فيما يشبهه الكاتب زفايغ بعملية الصيد.
وعلى مبدأ ضربات القلب التي يرصدها جهاز التخطيط صعودًا وهبوطًا، يقترب “البارون” ويبتعد عن هدفه، والصداقة التي أقامها مع الطفل في البداية تتأثر بتغيير مجرى اهتمام “البارون” الذي صار منصبًا على السيدة، كما يتأثر بهذه الصداقة تركيز السيدة على طفلها، وينزل درجة عن سلّم اهتماماتها، بعدما حوّلها “البارون” إلى فريسة، واستشعرت هي ذلك.
والطفل أمام تراجع اهتمام والدته وصديقه المفترض يغوص في بحر من التساؤلات حول سلوك كل من “البارون” ووالدته، بالإضافة إلى مراقبته الطرفين وتركيزه على التفاصيل للوقوف على سر التغير المفاجئ في سلوكهما.
في الرواية يؤكد زفايغ أن العلاقات البشرية، على اختلاف الغرض منها، علم يحدد مستوى الذكاء الاجتماعي، ليس ببناء العلاقات فحسب، بل باستمراريتها أيضًا، وتحديد الغرض منها، وبلوغه، والآلية المتبعة للوصول إلى الهدف.
العالم ليس ورديًا في رواية “السر الحارق”، كما في الواقع، فـ”البارون” النبيل يستغل وحدة الطفل وتعبه، ويلعب على الأوتار الحساسة في سبيل مراده، ما يوضح حقيقة أن المجتمع البشري لا يلقي بالًا للمبادئ دائمًا، وأن شيئًا وحشيًا قد يستيقظ داخل الفرد في وقت ما ليحوله إلى شخص آخر، ويدفعه لتحقيق أهدافه بمعزل عن القيم الأخلاقية، خاصة حين يتحول الشخص من قائد لهدفه إلى أداة لتحقيق الهدف، ما يعني سمو ما هو غير بشري على البشري.
وككثير من روايات زفايغ (الخوف، وأربع وعشرون ساعة من حياة امرأة، وآموك، ورسالة من مجهولة)، تندرج الرواية في إطار الأعمال الأدبية القصيرة، إذا ما قيست بعدد الصفحات، إذ تدور الأحداث كلها على مدار نحو 105 صفحات فقط، لكنها أحداث موزعة بتوازن على كل الصفحات بما يعوق أي إمكانية للملل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :