«كلشي تصور.. من أول ماطلعت من الحارة لوقت مارجعت» المصور الميداني الشهيد مروان حامد شربجي
جريدة عنب بلدي – العدد 44 – الاحد – 23 -12-2012
يوم الثاني والعشرين من نيسان عام 2011 أي يوم الجمعة العظيمة، ظهر أول مقطع فيديو على قناة الجزيرة يظهر فيه عناصر الأمن والشبيحة العائدين من مهمة قمع المتظاهرين في داريا، وقد صوره شاب جريء وجهًا لوجه بطريقة سرية واحترافية أظهر فيها وجوه معظمهم واستطاع أن يبادلهم الحديث ويكشف بعضًا من خبايا صدورهم وأسباب قدومهم. وقد تناقلت وسائل الإعلام هذا المقطع باهتمام كبير واعتبرته واحدًا من المقاطع الهامة التي توثق لعمليات القمع في سوريا. كان ذلك في وقت مبكر من الثورة أيام القمع بالعصي والجنازير.
استخدم مروان جهازه المحمول منذ بداية الثورة في تصوير المظاهرات وتوثيق عمليات القمع التي كان ينفذها جنود النظام في مدينة داريا، إذ كان يعلق الجوال داخل قميصه بطريقة خفية استطاع من خلالها التقاط مشاهد مهمة وفريدة. ولم يكن أحد يعلم ما يفعله مروان بالضبط لدى خروجه في المظاهرات سوى أنه متظاهر كالبقية، لكن صوته الذي ظهر أكثر من مرة في المقاطع المصورة كشف لمن عرفه دوره الحقيقي الذي كان يمارسه في التغطية الإعلامية والذي بقي سريًا وغير معلن حتى آخر أيام حياته.
اعتقل مروان يوم الجمعة الواقع في 30 نيسان 2011 على حاجز جامع الوهاب في صحنايا أثناء ذهابه إلى المسجد بعد أن اشتبه عناصر الحاجز باسمه، ونقل وقتها إلى معسكرات الفرقة الرابعة في جبال المعضمية حيث تلقى فيها هنالك ألوانا من العذاب على أيدي جنود الفرقة قبل أن ينقل إلى سجون المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري، والتي بقي فيها قرابة الشهر.
يقول أحد أقربائه: «عندما اعتقل مروان كان بحوزته جهازه المحمول وقد سجل عليه قبل ليلة أصوات رشقات الرصاص التي كان يطلقها جنود الأسد في المنطقة الغربية من داريا وفيها صوته وهو يوثقها بالزمان والمكان، وقد ظننا أنه لن يخرج من المعتقل حيًا فيما لو كشفت تلك المقاطع، تبين بعد خروجه أنه كان قد مسحها قبل دقائق من وصوله إلى الحاجز الذي اعتقل عنده والحمد لله»
لم يثن مروان شهر الاعتقال ذاك -رغم قسوته- عن معاودة العمل الثوري وبشكل خفي، فقليلًا ما كان يعلم عنه الآخرون ما كان يفعل، لكن الأبرز من نشاطاته كان التصوير الميداني، لا سيما في الأوقات العصيبة، فقد بقي مروان في داريا أثناء الحملة العسكرية الأولى على المدينة والتي ارتكب فيها النظام مجزرته الكبرى رغم المخاطر الكبيرة التي لفت المنطقة التي يقيم فيها، وقد استطاع تصوير مشاهد مهمة لمخلفات القصف المركز الذي استهدف المدينة حينها، كما ساهم بأعمال الإغاثة والإسعاف في محيط منطقته والذي استُهدف بشكل كبير.
أثناء الحملة الأخيرة على المدينة رفض مروان الخروج مع الخارجين، والذين بلغت نسبتهم ما يفوق الـ 90% من سكان المدينة، وقد كان الناس من حوله يتناقصون شيئًا فشيئًا وهو لا يزال مصرًا على البقاء في بيته ومزاولة العمل الذي أراده لنفسه في هذه الثورة، وقد سقطت عدة صواريخ على مقربة من منزله أعطبت سيارته وحطمت زجاج بيته، لكن ذلك زاده إصرارًا على البقاء.
يقول أحد أصدقائه الذين كانوا بصحبته قبل استشهاده: «أثناء القصف على المدينة كنا مختبئين في الطابق السفلي للبناء، وكان مروان كلما نزل صاروخ بقرب حارتنا ينتفض مسرعًا ويحمل كاميرته! كنت أقول له لا تذهب فسوف يضربون صواريخ أخرى في نفس المكان.. انتظر قليلًا.. فيصرخ في وجهي: لك بركي حدا بدو اسعاف بدي روح شوفهم وساعدهم وصور الدمار يلي صار»
وقد حصل فعلًا ما كان يخشاه الجميع عليه ففي إحدى المرات -كما يروي قريبه- «قصفت الراجمات الحارة التي بجانبنا بأربعة صواريخ تحطمت على أثرها جميع نوافذ البيت، وكان الصوت قويًا! فنهض مروان مسرعًا وبيده كاميرته إلى مكان نزول الصواريخ، وبعد عشر دقائق قُصف المكان نفسه بأربع صواريخ أخرى! فصرخت أنا وأخي وابن عمي (يااا رب) وبدأنا بالبكاء وصرنا نرتجف توترًا وقلنا أنه «قد مات»! وبينما نهمّ بالخروج للبحث عنه رأيناه وقد عاد راكضًا مذهولًا وثيابه متسخة وملطخة بالدماء ورأسه مبيض من كثرة الغبار الذي غطّاه وكان يتنفس بصعوبة والكاميرا مازالت في يده وهو يرتجف! وبعد صمت الصدمة تكلم: أربع صواريخ نزلو قدامي.. أنا شلون عايش لهلأ مابعرف! مابعرف العالم يلي كانت عم تسعف كلها راحت يمكن! ماعدت شفت قدامي من الغبرة.. شلون وصلت لهون مابعرف! ثم تابع متلفهًا ومنفعلًا: بس كلشي تصور.. من اول ماطلعت من الحارة لوقت مارجعت، وطلعو كمان الصواريخ هنن وعم ينزلو بجنبي!! تعا شوف تعال :)»
لقد قذفته انفجارات الصواريخ أمتارًا وألقته بين الركام، وقد ظن للحظات أنه انتهى بين الجثث التي تطايرت، لكن الله أمد بعمره لأيام أخرى وخرج من تحت الأنقاض الذي تساقطت فوقه والكاميرا لازالت في يده، وعاد رغم ذهوله فرحًا باللقطات التي صورها.
لم تفلح جهود أهله وأصدقائه بإقناعه بالخروج من داريا بعد أن اشتد القصف عليها وازداد تركيزه على وسط المدينة، وبعد أن وصلت الأوضاع المعيشية فيها إلى أسوأ حالتها، إذ لا كهرباء في بيته ولا وقود ولا زجاج على النوافذ يقيه برودة الشتاء، وأخيرًا لا ماء بعد أن أصابت شظايا أحد الصواريخ خزانات المياه على سطح المنزل!.
لقد علّق مروان مصيره بمصير عمه أبو مصعب المتمسك بجذوره وبأرضه والذي أطلق عبارة يقينه الشهيرة «ولدت هنا، وعشت هنا، وسأموت هنا»
في يوم الأربعاء الواقع في 28 تشرين الثاني 2012 استهدفت غارة جوية منزله الذي كان متواجدًا فيه بصحبة عمه عبد الرحيم شربجي (أبو مصعب) وصديقه محمد أنور قريطم (أبو النور) بصاروخ غير تقليدي (يشك بأنه يحمل موادًا كيماوية سامة) أدى إلى وفاتهم جميعًا، وقد تم اكتشاف جثثهم يوم الجمعة 30 تشرين الثاني وقد قضوا جميعًا في أماكن متفرقة من المنزل على هيئات تظهر أنهم عانوا عذابًا شديدًا قبل وفاتهم.
لقد استشهد مروان.. استشهد المصور الميداني المغمور الذي لم يشأ أن يفصح لكثيرين عن حقيقة دوره، استشهد اختناقًا أو تسممًا -لا أحد يعلم بالضبط- في بيته الذي ولد وتربى فيه.. استشهد وفي جعبته الكثير الكثير ليحكيه لأهله وأصدقائه عما رآه في أيامه الأخيرة، فقد اتصل قبل يومين من استشهاده بقريب له وأخبره بأنه يملك مشاهد خطيرة ومهمة للغاية صورها بكاميرته لأحداث جرت من حوله، وأنه يريد أحدًا يصل إليه ليسلمه إياها.
لكن قدر الله كان الأسبق إليه ورحل مروان..
مروان حامد شربجي، من مواليد داريا 1967، مقاول وصاحب مكتب عقاري في داريا، متزوج ولديه 5 أطفال.
• 30 نيسان 2011: اعتقل قرابة الشهر من قبل المخابرات الجوية.
• رمضان 2012: دوهمت مزرعته وتم تحطيم محتوياتها وسرقة بعضه.
• تشرين الثاني 2012: سقط صاروخ أمام منزله أدى إلى إعطاب سيارته بشكل كامل.
• 28 تشرين الثاني 2012: استهدفت طائرة ميغ منزله بصاروخ أدى إلى دمار قسم كبير منه وتحطيم جميع محتوياته.
• 30 تشرين الثاني 2012: وجد مروان شهيدًا بين ركام منزله الذي استهدف قبل يومين.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :