كان سكان مدينة دمشق، قبل ثلاثينيات القرن الماضي، يشربون مياه نهر “بردى” وفروعه الملوثة، ويشكون من أضرارها الصحية، حيث كانت دمشق محرومة من المياه الصالحة للشرب، ما تسبب بآلاف الأمراض للأهالي، كالتيفوئيد والزخار والكوليرا، وفق ما ذكره الكاتب السوري وصفي زكريا في كتابه “الريف السوري” (من فصل عنوانه، “دمشق في مطلع القرن العشرين” صفحة رقم 344).
وكان الرومان أول من جر مياه الفيجة، بعد اكتشافهم لها، بدليل وجود أقبية أثرية حول النبع وأنفاق شُقت في جبال وادي بردى، وجرت محاولات عدة لمد دمشق بالمياه النظيفة بشكل منتظم وبإشراف مؤسسي.
وفي عام 1905، جرّ الوالي التركي ناظم باشا مياه عين الفيجة عبر قساطل معدنية، وأقام 400 سبيل في مختلف الأحياء السكنية لتأمين شرب مياه نقية لسكانها، تصل إلى السبل من خزانين بُنيا في سفح جبل قاسيون، يضخان المياه عند امتلائهما بمعدل ساعتين يوميًا في الصباح وساعتين في المساء، ما خفف من وطأة شرب المياه الملوثة، وفق ما نشره موقع “التاريخ السوري المعاصر”.
اقرأ أيضًا: إبراهيم هنانو.. الذي اعتقله الفرنسيون بسبع تهم وخرج منها براءة
مياه الفيجة ملك أبدي لسكان دمشق
لكن ورغم محاولة ناظم باشا مد مياه الفيجة إلى دمشق، ارتبط مشروع جرّ المياه الذي احتفل سكان مدينة دمشق بانتهائه في 4 من آب عام 1932، باسم السياسي والاقتصادي السوري لطفي الحفار، الذي أشرف على تنفيذ المشروع منذ بدايته عام 1922 حتى تاريخ تدشينه عام 1932.
حين كان لطفي الحفار في مدينة الاسكندرية عام 1920، بسبب أعماله التجارية، استحوذت شركات المياه المصرية المساهمة على إعجابه، فاتصل ببعض كبار المساهمين من السوريين المقيمين في مصر، وعلم منهم أن صافي الأرباح السنوية التي توزع عليهم في الشركات حوالي 20%، وهي فائدة اقتصادية جيدة.
ووفق ما قاله في مذكراته التي نشرتها ابنته سلمى، درس لطفي الحفار فكرة شركات المياه، وأُشبع بقناعات دفعته إلى التصميم على تأسيس الشركات المساهمة الوطنية في سوريا، خصوصًا المدن الكبيرة، لأن مدينة مثل دمشق بأشد الحاجة حينها لجلب مياه الفيجة النقية إلى منازلها ومرافقها العامة.
ودعا لطفي الحفار رئيس وأعضاء الغرفة التجارية إلى الاجتماع في أوائل عام 1922، وكلفهم ببحث هذا الموضوع، ثم اقترح أن تُدعى مجموعة من وجهاء المدينة وتجارها، لتأليف شركة مساهمة وطنية أهلية تقيم هذا المشروع الحيوي الصحي والعمراني، فوافق المجتمعون على اقتراح الحفار.
وأُلّفت لجنة من أعضاء غرفة التجارة للبدء بهذا المشروع، كما قُدّرت التكاليف الخاصة لبناء شبكة لتوزيع المياه على البيوت بـ150 ألف ليرة عثمانية ذهبية، فتقرر بأن يكون رأسمال هذه الشركة المساهمة بهذا المقدار على الأقل.
وفي 16 من آب عام 1922، دعت الغرفة التجارية إلى عقد اجتماع عام قبل الشروع بتنفيذ الخطة، ولطلب الامتياز للشركة من أجل جلب مياه الفيجة إلى منازل دمشق من المفوضية الفرنسية، صاحبة السلطة التشريعية حينها.
وطلب أعضاء الشركة حضور فارس الخوري، رئيس “الاتحاد السوري” حينها، لاستشارته من الجانب القانوني لهذا المشروع، فقال “إن الفكرة جليلة (…) ولكني أخشى كثيرًا أن ينقلب هذا المشروع لمصلحة أموال أجنبية بواسطة شراء أسهمه (…) أما اقتراحي فهو يحصر الفائدة بأهالي مدينة دمشق عامة، ويقضي بتمليك الماء لأصحاب الأملاك فيها على أن يكون الماء مرتبطًا بالملكية، لا يجوز بيعه ولا تحويله دون بيع العقار أو تحويله لمالك آخر، وبذلك يكون ضمان بقاء هذا المشروع وطنيًا أهليًا دون أن يتطرق إليه أي خطر كان”.
بعدها أُخذ الامتياز للبدء بالمشروع باسم بلدية مدينة دمشق، بحسب القواعد المقررة لتنفيذ المشروع، حيث توجه لطفي الحفار إلى رئيس بلدية دمشق حينئذ، يحيى الصواف، وحصل على دعمه للمشروع.
اقرأ أيضًا: لطفي الحفار.. ساقي مدينة دمشق
عراقيل تقف أمام المشروع
قرر الحفار فتح الاكتتاب العام على هذا الأساس، بعد الحصول على جميع الموافقات القانونية، ليباع المتر الواحد من الماء بالتقسيط لمن يرغب بقيمة 30 ليرة ذهبية عثمانية.
ولكن تبين له سريعًا أن شركتين فرنسيتين كانتا قد أُسّستا في نفس الفترة، من دون علم التجار السوريين، تطمحان للحصول على نفس الامتياز، وفق ما قاله في مذكراته، مدعومتين من عدد من المستشارين الفرنسيين المقيمين في بيروت.
تقدم الحفار بالطلب إلى ما كان يعرف بـ”لجنة الدروس الاقتصادية” التي كان يرأسها المفوض السامي ماكسيم ويغان، وكانت تجتمع في بيروت نهاية كل شهر، ولكن الطلب قوبل بالمماطلة والتأجيل المتكرر من قبل الموظفين الفرنسيين وأعوانهم من السوريين واللبنانيين.
وعند سؤاله عن السبب، جاء أحد المستشارين الفرنسيين، وهو شوفالير، وتحدث مع لطفي الحفار، “أنت يا مسيو حفار تطالب بأخذ امتياز لجلب مياه عين الفيجة إلى دمشق بواسطة مشروع، اسمح لي أن أقول لك إنه مشروع خيالي لم يسبق أن قام على مثله عمل فني ومالي. عدا أن أهالي مدينتك الذين يشربون من مياه نهر بردى مجانًا لا يعطونك ولن يعطوك 150 ألف ليرة ذهبية عثمانية لتحقيق مشروعك. لهذا كله أنصحك أن تتفاوض مع شركة مياه بيروت أو شركة الكومندان فيريه لتحقيق المشروع، لأن لديهما الخبرة الفنية والمقدرة المالية للقيام به على أحسن وجه”.
وبعد أخذ ورد ومواجهة بعض التهديدات والرشى، قابل الحفار رئيس “لجنة الدروس الاقتصادية” الشهرية ويغان في بيروت، وصارحه بكل ما حدث، فقال له ويغان، “هذا مشروعكم موقّع مني فأنا لا أستطيع إلا الموافقة عليه بعد أن رأيت فيك هذا الاندفاع، ولكني أرجو أن تنجح هذه التجربة”.
وبعد أن بدأت الحفريات في الجبال لتنفيذ المشروع، نشبت الثورة السورية في عام 1925، فلم يعد بالإمكان مواصلة الأعمال، فتوقف المتعهد طويلًا إلى أن انتهت الثورة أوائل عام 1928، ليُستأنَف العمل في المشروع.
اقرأ أيضًا: ثمن استقلال سوريا من الفرنسيين دفعته في أيار.. حامية البرلمان
دمار يطال عين الفيجة
تقع بلدة عين الفيجة في منطقة وادي بردى الجبلية بريف دمشق الشمالي الغربي، وتبعد عن العاصمة السورية حوالي 20 كيلومترًا، وتعد مصدرًا رئيسًا لمد العاصمة السورية بالمياه، ويحيط بها جبل الهوّات من الشرق، وجبل القلعة من الشمال، وجبل القبلية من الجنوب، ويخترقها نهر بردى.
وترتفع بلدة عين الفيجة عن سطح البحر حوالي 890 مترًا، وهي واحدة من ضمن سلسلة بلدات تشكل منطقة وادي بردى، حيث كانت تعبرها سكة قطار ينطلق من دمشق إلى عين الفيجة ثم الزبداني وسرغايا إلى لبنان.
وبعد عام 2011، تعرضت مناطق وادي بردى، خصوصًا عين الفيجة، إلى دمار كلي بنسبة 80%، كما تعرضت قريتا بسيمة وعين الخضراء لدمار كلي بنسبة تصل إلى 35%، أما المناطق التي طالها دمار جزئي فقد تم “تعفيش” وسرقة جميع ما فيها من ممتلكات منقولة على يد جهات تابعة لحكومة النظام السوري.
–