حكايا.. أمام شباك الفرن
جريدة عنب بلدي – العدد 44 – الاحد – 23 -12-2012
وقف الرجل ينظر إليه؛ يتأمله ويتساءل: «كم ساعة وقف هذا الصغير في انتظار دوره للحصول على الخبز؟
كم فردًا بقي من عائلته يا ترى؟
كم طفلاً بعمره يقفون مثله الآن على الطوابير في هذا البرد؟
هل كانت الثورة تستحق كل هذه المعاناة؟»
لقد كان الطفل يحمل الخبز ويضمّه إلى صدره، ويمضي بالمسير نحو بيته.
كان نظر الرجل كان طوال مسمّرًا على الطفل، والطفل يسترق النظرات وجلاً من تركيز الرجل عليه، حتى تجاوزه بخطوات..
فأشاح الرجل نظره عنه، وغطى وجهه بكلتا يديه من شدة الهم الذي ألمَّ به، وإذ بالطفل قد عاد أدراجه ووقف أمامه، وقال له ببراءة مطلقة: «عمو بدك خبز؟ إذا جوعان كتير بعطيك ياهن وبرجع بوقف بالدور، معلش أهلي بيستنوا، أخوي أخد ربطة قبلي وسبقني»!
فانهار الرجل وسقط على ركبتيه، وضمّ الطفل إلى صدره، وأجهش بالبكاء كالمجنون، وليس بينه وبين صدر الصغير إلا رغيفُ خبز.
• • •
ومن القصص المروعة التي تحدث أمام نافذة الخباز حدثنا أحد الواقفين هناك قائلاً : ذهبت لإحضار الخبز من الفرن الآلي وصلت إلى هناك، ووجدت عددًا كبيرًا من الأشخاص ربما بحدود الألف شخص! كلهم ينتظرون دورهم، وما إن وقفت في دوري حتى جاء الأمن ونزل من السيارة عنصر واحد وأطلق رصاصتين في الهواء من أجل تنظيم الدور وذهبوا على الفور، وبعدها وقع شجار طويل أدى إلى عودة عناصر الأمن مرة ثانية وبدأوا بإطلاق الرصاص في الهواء فوقعت سيدة من داريا على الأرض مغمى عليها، فحملها أحد الواقفين وأخذها إلى المشفى بسيارته.. اقترب أحد العناصر من دور الرجال وقال لأحد الواقفين أمامي وكان يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا « تعال ولا « تقدم إليه فسأله العنصر أنت من أين؟ أجابه الشاب: من داريا، فوضعوه بالسيارة وذهبوا به، وبعد نصف ساعة أعادوه إلينا -ومازلنا واقفين على شباك الفرن- مليئًا بالدماء وفكه السفلي مشقوق وعلى جسده الكدمات، فانطلقنا به مسرعين إلى المشفى الحكومي، قالوا لنا «إذا ديراني نحن ليس لنا علاقة به ولا نستطيع قبوله»! فأخذناه إلى مشفى خاص، فقالوا لنا في قسم الإسعاف «إن حالته خطرة» وأدخلوه غرفة العمليات ولم أعرف ماذا حصل بعدها لأنني تركته هناك وعدت إلى منزلي وأنا في ذهول لما حصل، وعزمتُ في قرارة نفسي أن لا أعود إلى ذاك الفرن لإحضار الخبز حتى لو متُ جوعًا.
• • •
ولم تقتصر هذه المعاناة على أهلنا الذين نزحوا من مدينتهم بل أصبحت هذه معناة الشعب السوري ككل.
ففي حلب حدث أمام الفرن الآلي أن أمًا اصطفت في طابور الخبز مثلها مثل ألاف الناس في حلب، وقبل أن يصل دورها أغلق الفرن بابه ونادي مناديه «لم يتبق أي رغيف عندنا»! نظرت الأم حولها والدموع تخنقها وهي تتساءل كيف ستعود لليوم السابع على التوالي وليس بيدها رغيف تطعم به أولادها الستة ؟
وجدت رجلاً بيده بضع أرغفة فانكبت على قدميه تقبلهما «من شان الله اعطيني كم رغيف لأولادي هنى جوعانين ومافي شي عندي بالبيت لطعميهم»..
ألقى الرجل ما بيده من خبز وابتعد عنها والدموع تذرف من عينيه وهو يقول: يا رب انتقم لها من المجرم بشار.
ومن رحم الآلام تخرج براءة الأطفال ونهفاتهم فقد ابتكر الأولاد مهنًا جديدة، فأحد الأولاد من الذين يقفون كل يوم على الدور بمخبز التجارة وقبل أن يصل دوره بقليل صرخ بصوت عالي من يشتري الدور مني؟! فأتى شخص مسرعاً من آخر الصف وقال: أنا ودفع له 75 ليرة ووقف مكانه وهو يبتسم والولد يضحك وتعالت الضحكات بين الواقفين وعاد الولد ووقف من جديد ليعيد الدور عل وعسى يأتي دوره ويأتي شخص آخر ويشتري منه الدور ..
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :