النظام السوري والأرض المسطحة
بشار غوجل – الحراك السلمي السوري
هناك منظمة تدعى جمعية الأرض المسطحة أو Flat Earth Society يعود تاريخ تأسيسها إلى أكثر من مئتي سنة تستند في مذهبها على التأويل الحرفي للنصوص المقدسة وتصوغ أهدافها كالتالي: الجمعية تعمل على البرهنة على أن الأرض مسطحة وعلى أن «نظرية» كروية الأرض ما هي إلا خديعة، وتتعهد الجمعية بكشف خفايا وأسرار الكون. وتجدر الإشارة أن للجمعية موقع على الإنترنت، صفحة على iTunes وغالبا حساب على التويتر. وبناء على ما يجده الزائر لموقع الجمعية على الشبكة فليس هناك ما يدل على أن الموضوع هزلي أو أنه من باب الدعابة.
قد يظن أن القارئ أن هذا التصور للكون والأرض ما هو إلا حالة شاذة وبعيدة عن الواقع ومحصور في مجال علم الفلك، ولكننا لسنا بحاجة إلى قفزة فضائية أو سفر عبر الزمن لنعيش نفس الحالة الذهنية في الفضاء الاجتماعي، فهناك ممارسات إعلامية وخطابات رسمية من قبل النظام أو حتى ثورية لا تقل هزليا، من وجهة نظر ثقافية، عن نظرية الأرض المسطحة.
على سبيل المثال، هناك تقرير للسكاي نيوز، معد بالتوافق مع النظام السوري، عن طبيعة الثورة السورية وتطرفها الديني المطلق. في التقرير يدخل المذيع إلى مكتب في مركز أمني ليلتقي مع معتقلين ينسبون إلى جبهة النصرة. المذيع يسأل السجناء: هل أنا كافر؟ فيرد عليه السجين بأن يعرض عليه الإسلام من خلال النطق بالشهادتين، فإن رفض فعلى المذيع دفع الجزية للسجين فإن رفض فـ «الحرب بيننا وبينك»، هكذا يقول السجين للمذيع البريطاني. ثم يسأل المذيع: لماذا ليس هناك مكان للمسيحيين في سوريا؟ ويأتيه الجواب: هناك مكان إذا دفعوا الجزية… نحن لا نتطلع إلى سوريا فقط، ولكننا نتطلع إلى العالم، وهذا ما نعلمه لأجيالنا. هكذا، وبكل بساطة وبكل سطحية يطرح السؤال البريء: لماذا ليس هناك مكان للمسيحيين في سوريا؟ وكأن المسيحية هي من منجزات الحركة التصحيحية، وكأن التعددية في سوريا من مزايا حكم البعث لا إحدى ضحاياه!
الحوار الدائر بين المذيع والمعتقلين وما بينهما المترجم من استعادة أمجاد «الإسلام» والخلافة وغزو الكفار وإجبارهم على دفع الجزية وهم صاغرون مرورًا باستعادة الأندلس ونشر الفكر «النصروي» ورؤيته الخاصة للجهاد المستمدة من تعاليم أبو قتادة، إن هذا المنطق الاستعراضي ينتمي، معرفيًا على الأقل، إلى نفس المنظومة الفكرية القائلة بنظرية سطحية الأرض والتي تعيش الثقافة فيها أوهام الغزو الجهادي في عصر غزو الفضاء.
النظام يحاول من خلال عرض هكذا مقابلات والسماح بإعدادها أصلًا من أن يسوق لنفسه أنه يحارب متطرفين مجانين يعيشون في عصور غابرة وأن الثورة السورية تختزل بخرافيين من أمثال هؤلاء الدونكيشوتيين، وكأن الثورة السورية بدأت واستمرت ما يقارب السنتين مع كل التضحيات فقط في سبيل السبايا والغنائم والجزية التي ستجبى من ديار الغرب. هناك تجاهل تام للأسباب الحقيقية وراء اندلاع الثورة، وتعامي عن الممارسات اللاإنسانية من قبل السلطة، وإهمال للمحاولات العديدة من أطراف كثيرة في بداية الثورة لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر وفتح مساحة حوار وطني حقيقي بدون سقوف. من خلال التزوير والكذب والانتقاء الممنهج للأحداث والأخبار، يحاول النظام أن ينخفض بمستوى الطرح إلى قعر سحيق لا تنفع عنده أي من الأدوات الفكرية المستخدمة في الفضاء الاجتماعي وتتعطل في مستواه المحاكمات العقلية والقدرة على الفهم والمحاججة.
هذه استراتيجية ناجحة، إلا إذا كشفناها وتعاملنا معها بطريقة علمية، احصائية، تاريخية، وبالوقائع وبالإثباتات.
أين النظام السوري من مظاهرات كانت تعد بعشرات الآلاف تدعو إلى وحدة الشعب السوري والتنزه عن الطائفية والالتزام بالشرعية والمطالبة بحقوق المواطنة والكرامة والعدالة وسيادة القانون؟ هل بدأت الثورة السورية منذ اليوم الأول على يد جبهة النصرة؟
نتحدى النظام أن يطلق يحيى الشربجي المعتقل منذ أكثر من خمسة عشر شهرًا وقبل أن يكون لجبهة النصرة وجود في سوريا، نتحداه أن يبرر لنا اعتقال يحيى صديق درب المرحوم الشهيد غياث مطر، والذي التزم باللاعنف كوسيلة للتغيير فاستهدفه النظام هو والناشطين السلميين من أمثاله منذ أول يوم للثورة، نتحداه أن يعرض لنا وجهة نظر يحيى عن التغيير. هل كان يحيى يبحث عن استعادة أمجاد الأندلس ويعد نفسه بالسبايا والعطايا، أم أنه كان يدعو للحرية والديمقراطية والعدل؟ نتحدى النظام أن يعرض وجهة نظر الدكتور محمد العمار الذي اعتقل خمس مرات منذ بداية الثورة السورية والذي لا يزال ولداه معتقلين حتى الآن، أو أن يستمع لمذهب جودت سعيد الذي قصف بيته ومزرعته واضطر للخروج. هل يستطيع النظام أن يضع فكر أحد من هؤلاء، ومثلهم الكثير، أمام الناس لنسمع منهم رأيهم في النظام وفي الثورة السورية؟ لماذا حوصر وسجن دعاة الاعتدال والمنطق من أمثال معاذ الخطيب وميشيل كيلو وجورج صبرة وغيرهم ودفعوا للخروج من الوطن حفاظًا على حياتهم وحياة عائلاتهم؟ لا يكتفي إعلام السلطة بوأد أي محاولة مدنية عقلانية إنسانية لتناول الأزمة، وإنما يعمد بشكل فج وصارخ على إخراج ممارساته اليومية من دائرة المفكر فيه، فهل يستطيع النظام أن يبرر لنا كيف تساعد براميل الـ TNT المتفجرة والتي تلقى على الأحياء السكنية المليئة بالمدنيين بالتخلص من جبهة النصرة وتنظيم القاعدة؟ هل يستطيع أن يشرح لنا تفاصيل العمليات «الجراحية» الدقيقة التي تقوم بها طائرات الميغ يوميا لاستئصال التطرف من سوريا؟ نريد أن نفهم الآلية فقط! هل يستطيع النظام أن يبرر لنا استهداف الأطباء بالاغتيال والاعتقال والتهجير؟ لائحة الأسئلة هذه تطول ولا تنتهي، وفي ذهن كل مواطن منها وفر ونصيب وعلينا ألا نمل من طرحها وتكرارها لأن الكثير من أبناء هذا الوطن لا يزالون يعيشون على الكوكب المسطح الذي مهده النظام وصنع حدوده ورسم تضاريسه ونصب نفسه فيه حاميا للإعتدال والأقليات والعلمانية وحائلًا على سطحه بين مواطني هذا الكوكب المسطح وبين التطرف والإسلاميين!
لقد كان في سوريا الكثير من الاعتدال ومساحة واسعة جدا من المرونة والتفاوض والحوار منذ اليوم الأول للثورة، إلا ان النظام أبى إلا أن يحصر معركته، إعلاميًا، مع جهات من أمثال جبهة النصرة، واختار بشكل واع خصومه المتطرفين بعد أن قتل وسجن وهجر المعتدلين. كان بإمكان أصحاب القرار أن يختصموا سياسيًا مع الكثير من مثقفي سوريا وناشطيها وأن يذهبوا معهم إلى صندوق الانتخابات ويحتكموا لرأي المواطن في مكان حقيقي وفي عالم ثلاثي الأبعاد ومتعدد الألوان وعلى أرض سوريا. إلا أن النظام اختار التصور المسطح للعالم كما يراه هو بالأبيض والأسود ووفقًا لتأويلاته الخاصة وتعريفاته الضيقة لمعاني الوطنية والشعب والأمن والوطن الحوار. النظام حبس نفسه في معركة جنونية مع متطرفين حلم بوجودهم في البداية وساعد على استنباتهم ثم رعاهم وروج لهم وهاهو الآن يحتفي بانتشارهم في مقابلات تلفزيونية يصورها بكل حنان في مراكزه الأمنية الوادعة في لقاءات تنتهي بالمصافحة والمسير الاختياري نحو الزنزانات.
الشعب لم يرفض يوما الحوار، ولكنه يرفض الاستحمار.
لقد بلغ الاستخفاف بعقل المواطن حدا تجاوز في عمقه قعر أسفل سافلين، وأدى الإيمان بالعنف واستخدامه كوسيلة للحكم والاستمرار فيه أو كوسيلة للتغيير أو كوسيلة لإخضاع الناس إلى نتائج كارثية مؤلمة ومدمرة. إن هذه الرؤية المسطحة للإنسان وطبيعته النفسية والجسدية، والرؤية المسطحة للكون الواسع وخالقه المبدع عندما تستحوذ على أفكارنا تتحول إلى أدوات قاتلة لا تبقى حبيسة الجماجم لفترة طويلة وإنما تخرج من فضاء التصورات الذهنية و تبدأ بالظهور على شكل ممارسات على الساحة الفكرية والسياسية. هذا هو مصدر الخطابات «المسطحة» سواء من قبل النظام أو من قبل التنظيمات الجهادية المتطرفة أو التخوينية الإقصائية أو الحزبية الضيقة أو الثورية الاحتكارية التي سرعان ما تنتقل إلى أرض الواقع فتتجلى على شكل ممارسات عنيفة تتصعد لتصل إلى الحرب الدائرة الآن والتي في حال استمرارها لن تبقي في البلد حجرًا على حجرًا
ما العمل؟
لكي نقف في وجه التطرف والجنون، بغض النظر عن مصدره، علينا أن نتمسك بالطرح العقلاني والإنساني للمشكلة وإمكانية إيجاد حل لها. علينا أن نوسع مساحة الحرية الفكرية والنقدية لتشمل كل ممارساتنا وهيئاتنا وتنظيماتنا وتوجهاتنا فيما يخص الثورة والنظام، الوطن والمواطن. علينا أن نصر على لغة إنسانية خالية من التخوين والتخويف والتهديد والإقصاء والتعالي، لغة تلتزم بمبادئ الثورة في الإعلاء من شأن الإنسان وعقله وكرامته وحرمته وتعمل على ترسيخها. هنا مقتل النظام، في الاعتدال والعقلانية والتصرف الواعي والإنساني حتى تحت الضغط. علينا دائمًا أن نعمل على التأكيد أن الثورة ليست متطرفة، وليست ملكا للمتطرفين، من خلال نشر الفكر المعتدل وممارسته أيًا كان موقعنا وموقفنا. علينا أن نصعد من نشاطنا المدني بقدر المستطاع وأن نحض عليه ونبقي جذوته متقدة. علينا بشتى الوسائل أن نوقف الحقلة المفرغة لثقافة العنف التي تعيد انتاج نفسها كل مرة تحت وهم انتصار السلاح وفعاليته على حساب عقل الإنسان
وإلى كل من يقف مع القتل والإعتقال والتهجير والقصف والتدمير والممارسات اللاإنسانية مهما كان فاعلها، إلى كل من يؤمن بالعنف: هل يسعدك أن تكون عضوًا في جمعية الأرض المسطحة؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :