زينب مصري | أمل رنتيسي | جنى العيسى | حسام المحمود
“حياتي مليئة بالديون لتأمين احتياجات أسرتي اليومية الأساسية فقط، أتمنى أي فرصة آمنة تساعدني على الهجرة خارج البلاد، فلا حل يمكّنني من حياة كريمة لعائلتي غير ذلك”.
تسلّط كلمات محمد لعنب بلدي، وهو سائق سيارة أجرة مقيم في ريف دمشق، الضوء على جزء من مشهد تأزم الوضع المعيشي لدى المواطنين في مناطق سيطرة النظام السوري، الناتج عن انعكاسات إدارة حكومة النظام الاقتصادية والمالية.
فقبل سنوات قليلة، كان الشاب يعيش بحالة “أيسر” من حالته الآن، إذ كان قادرًا على تأمين حاجات منزله اليومية دون أن يحتاج إلى أحد، واعتاد أن يوزع مصاريفه على قدر الدخل.
حالة محمد ككثير من السوريين في مناطق سيطرة النظام، ارتبط مستوى اليُسر المادي عندهم بالقدرة على السيطرة على مصاريف الاحتياجات الأساسية، بعد أن أصبح ارتفاع سعر الصرف والغلاء العام ونقص المواد الأساسية وعدم توفرها بشكل دائم مشهدًا اعتياديًا ومتكررًا في حياة كثير منهم.
ومع معاودة تطبيق حكومة النظام سيناريو رفع الأسعار وزيادة الرواتب معًا بنسب غير متكافئة، صارت التوقعات بمزيد من التدهور المعيشي من الأساسيات التي ينظم سوريون حياتهم وفقها.
تناقش عنب بلدي في هذا الملف أسباب ارتفاع الأسعار بمناطق سيطرة النظام في ظل استقرار سعر الصرف منذ عدة أشهر، وتبحث مع اقتصاديين مستقبل الوضع المعيشي للسكان في تلك المناطق، وانعكاسات القرارات التي تتخذها حكومة النظام لإدارة هذا الوضع.
العجز وانخفاض الطلب يتحكمان بمستوى الأسعار في سوريا
ركزت حكومة النظام خلال الأشهر القليلة الماضية، في إدارة الأزمة المعيشية، على التعامل مع المواد المدعومة التي تمس حياة السوريين في مناطق نفوذها بشكل مباشر ويومي، ولجأت إلى رفع أسعارها أو تخفيض مخصصات المواطنين منها، أو حتى إزالتها من الدعم.
المبرر لهذه السياسة جاء أولًا من صحيفة “الوطن”، المقربة من النظام السوري، وهو عجز الحكومة عن تمويل المواد المدعومة، لـ”انعكاس غليان الأسواق العالمية” على الكميات المتاحة من المواد الغذائية.
لاحقًا، برر رئيس حكومة النظام، حسين عرنوس، ما اعتبره “تحريك أسعار” الخبز والمازوت، بأسباب خارجة عن الإرادة لكلا النوعين، لضمان استمرار تأمينهما.
ونفى أن تكون الزيادة تمويلًا للموازنة، و”إنما هي تخفيف جزء من العبء على الموازنة”، بعد تحول النفط إلى عبء عليها تشتريه الدولة بالقطع الأجنبي، وبأكثر من 75% من قيمته، بعد أن كان موردًا أساسيًا للموازنة.
كما نفى أن تكون هذه الزيادات في الأسعار تمهيدًا لإلغاء نهائي للدعم، مشيرًا إلى أن سياسة الدعم هي مكوّن أساسي للسياسة الاقتصادية في سوريا، ولن يكون هناك أي تراجع عن الدعم لكن قد تختلف أشكاله وهيكلته.
وكان الدكتور السوري في الاقتصاد والباحث في معهد “الشرق الأوسط” بواشنطن كرم شعار، أوضح في حديث سابق إلى عنب بلدي، أن حكومة النظام في وضع مالي صعب، وغير قادرة على دعم استيراد السلع بنفس الوضع السابق، ومقدرتها على الإنفاق منخفضة جدًا، لكنها في المقابل تحاول تركيز الإنفاق على السلع المدعومة على حساب الاستثمار الذي توقف تقريبًا.
حكومة “ذر الرماد في العيون”
رفعت الحكومة أسعار العديد من المواد الغذائية الأساسية والسلع اليومية، خلال تموز الماضي، على الرغم من استقرار تشهده الليرة السورية في قيمتها أمام الدولار الأمريكي، منذ نيسان الماضي.
وفي الوقت نفسه، أقر رئيس النظام، بشار الأسد، زيادة على الرواتب والأجور، في 11 من تموز الماضي، بنسبة 50% على رواتب العاملين في الدولة، ونسبة 40% على رواتب المتقاعدين.
وبعد أن كانت الذريعة الأولى للحكومة في رفع الأسعار، هي هبوط قيمة الليرة السورية أمام الدولار قبل نيسان الماضي، صارت ذريعة ارتفاع تكاليف الإنتاج هي السبب البديل الذي يناسب المرحلة.
الخبير الاقتصادي ورئيس “مجموعة عمل اقتصاد سوريا”، الدكتور أسامة القاضي، أوضح في حديث إلى عنب بلدي، أن حالة تخبط الاقتصاد ومبررات القرارات التي يتخذها النظام ناجمة عن سوء إدارته للأزمات الاقتصادية التي تواجهه.
وأضاف القاضي أن أسباب ارتفاع أسعار السلع يعود إلى قلة وجودها في السوق، وانخفاض منحنى الطلب والعرض عليها بسبب سوء الوضع المعيشي، بالإضافة إلى قرارات النظام بمنع التعامل بالقطع الأجنبي ظنًا منه أن منع تداول الدولار سيضمن ثبات سعر السلع.
وعلى الرغم من ارتفاع مختلف أسعار المواد، وقّع “اتحاد المصدّرين والمستوردين العرب” مع “المكتب الإقليمي للاتحاد في سوريا”، في 4 من تموز الماضي، اتفاقية تعاون “لدعم وتنشيط الصادرات الوطنية”، بحسب ما نقلته وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).
وينعكس حجم الصادرات على المقيمين في مناطق سيطرة النظام، إذ يدفع قلة توفر المادة إلى رفع أسعارها.
وإثر موجة غلاء غير مسبوقة في المواد الغذائية في آذار الماضي، طالبت “جمعية حماية المستهلك” في دمشق، بوقف تصدير المواد الغذائية من مناطق سيطرة النظام السوري، معللة بأنه من الأولى سد حاجة السوق المحلية والمواطن قبل التصدير.
وقالت رئيسة الجمعية، سراب عثمان، حينها، إن الارتفاعات في الأسعار “جنونية ولا تطاق”، مشيرة إلى أن الأسعار تتبدل وترتفع عدة مرات في اليوم الواحد، وأن القدرة الشرائية لأغلبية المواطنين صارت “متهالكة”، وفقًا لما نقلته صحيفة “الوطن” المحلية.
ويرى الخبير الاقتصادي أسامة القاضي، أن خطط الحكومة الاقتصادية تعمل بمبدأ “ذر الرماد في العيون”، إذ تصدر قرارًا بزيادة الرواتب من جهة، وتضاعف أسعار السلع الأساسية من جهة أخرى.
وأضاف القاضي أن زيادة الرواتب لا تحل المشكلة، بل تضاعفها، إذ ستؤدي بطبيعة الحال إلى طبع المزيد من العملات النقدية، مع الإبقاء على حجم السلع الموجودة القليلة نفسها.
وسينتج عن كل ذلك زيادة في مستوى التضخم، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المزيد من المواد إلى مستويات مرتفعة جدًا مستقبلًا.
كيف زادت الأسعار خلال شهر
سجل الدولار الأمريكي الواحد في السوق السوداء، خلال تموز الماضي، وسطيًا 3200 ليرة سورية، بحسب موقع “الليرة اليوم”، المتخصص بأسعار الصرف والعملات الأجنبية.
في حين يبقي مصرف سوريا المركزي سعر الصرف ثابتًا، منذ مضاعفته في نيسان الماضي، عند مستوى 2512 ليرة للدولار الواحد.
وزادت وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك في حكومة النظام، في 12 من تموز الماضي، أجور النقل العام، بنسب تتراوح بين 28.5 و32% على التعرفة السابقة، بحسب نوع المركبة، ما أدى إلى حدوث أزمات نقل ومواصلات في معظم المحافظات.
ورفعت الحكومة، في 11 من تموز الماضي، سعر ليتر المازوت بنحو 178%، ليصبح 500 ليرة سورية بعد أن كان 180 ليرة، وسعر الخبز بنسبة 100%، ليصبح سعر الربطة 200 ليرة بعد أن كان 100 ليرة.
كما رفعت وزارة التجارة الداخلية سعر ليتر البنزين من نوع “أوكتان 95” إلى ثلاثة آلاف ليرة سورية، بعد أن رفعت “المؤسسة السورية للتجارة” سعر الكيلوغرام الواحد من مادتي الأرز والسكر عبر “البطاقة الذكية” إلى 1000 ليرة، بعد أن كان 600 ليرة.
وفي 17 من حزيران الماضي، رفعت وزارة الصحة في حكومة النظام سعر أكثر من 11 ألف صنف دوائي بنسبة تقارب 30%.
ويشهد المستوى العام للأسعار في سوريا ارتفاعات متكررة، وسط تحذيرات أممية من ارتفاع معدل الجوع، جراء الصراعات وجائحة “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) وتغير المناخ.
وتوقع تقرير صادر عن برنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الأغذية والزراعة (فاو)، أن “تؤدي النزاعات والتداعيات الاقتصادية لجائحة (كورونا)، وأزمة المناخ، إلى ارتفاع مستويات انعدام الأمن الغذائي الحاد في 23 نقطة ساخنة للجوع خلال الأشهر الأربعة المقبلة”، منها سوريا.
ويعاني مسبقًا 12.4 مليون سوري من انعدام الأمن الغذائي، ويواجهون صعوبة في الحصول على وجبتهم الأساسية، بحسب بيانات برنامج الغذاء العالمي..
ويشكّل هذا العدد ما يقرب من 60% من سكان البلاد، وزاد بنسبة “مذهلة” بلغت 4.5 مليون شخص خلال العام الماضي وحده، ويوجد نحو 1.8 مليون شخص آخرين معرضين لخطر انعدام الأمن الغذائي “ما لم تُتخذ إجراءات إنسانية عاجلة”.
النظام يداوي مشكلاته الاقتصادية بالأعذار
يتعامل النظام السوري مع الأزمات الاقتصادية المتزامنة التي تشهدها مناطق سيطرته بالأعذار الجاهزة والمبررات المسبقة الصنع، يقابلها عجز حكومي واضح عن تقديم حلول إسعافية تنتشل البلاد من مستنقع التدهور الاقتصادي، الذي ينعكس بدوره على الواقع المعيشي للمواطن.
وفي حين يعاني المواطن السوري من غلاء كبير في الأسعار لا تواكبه المعاشات الشهرية للعاملين في المؤسسات الحكومية، أطل رئيس النظام، بشار الأسد، في خطاب القسم الدستوري الذي أداه في 17 من تموز الماضي، مجددًا التأكيد على الذرائع الاقتصادية التي قدمها في وقت سابق ليعزو لها حالة الإنهاك الاقتصادي ضمن مناطق سيطرته.
مليارات مجمّدة غير متفق على عددها
خلال كلمته في قصر “الشعب”، حيث أحضر أعضاء مجلس الشعب ليشهدوا أداء القسم، قدّم الأسد أرقامًا جديدة حول الأموال السورية المجمدة في المصارف والبنوك اللبنانية، جراء أزمة المصارف التي يشهدها لبنان منذ أواخر عام 2019، رافعًا تقديرها إلى 60 مليار دولار أمريكي.
وقال إن العائق الأكبر هو الأموال السورية المجمدة في المصارف اللبنانية، التي تقدر بعشرات المليارات، موضحًا، “البعض يقول 40 مليارًا والبعض يقول 60 مليارًا”.
لكن هذه الأرقام نفسها اختلفت عن تلك التي طرحها الأسد خلال تصريحه على هامش زيارة أجراها إلى معرض “منتجين 2020“”، التي قدّر خلالها قيمة الأموال المجمدة في المصارف اللبنانية بين 20 و40 مليار دولار، دون مبرر واضح، أو أي استناد لإحصائيات رسمية توضح سبب اختلاف الأرقام، طالما أن الأسد عزا في التصريحين الأرقام المذكورة لمن قال إنهم “البعض”.
كما ربط الأسد أزمة المصارف اللبنانية بالوضع الاقتصادي المتدهور في مناطق سيطرته، محملًا إياها مسؤولية الحالة الاقتصادية الصعبة في سوريا، ومعتبرًا في الوقت نفسه أن حلّ المشكلات الاقتصادية في سوريا يرتبط بالظروف في لبنان.
نقص المياه سببه الكهرباء
بالإضافة إلى الواقع الاقتصادي الهش، تبرز أزمة المياه ضمن مناطق سيطرة النظام كترجمة فعلية لسوء شبكات المياه وبناها التحتية وعدم القدرة على تشغيلها، خاصة في العاصمة وريفها ومحافظة حماة وحمص وطرطوس، ما دفع الأهالي للاعتماد على الصهاريج لتأمين مياه الشرب.
نقص كميات المياه دفع مدير التخطيط في وزارة الموارد المائية بحكومة النظام، بسام أبو حرب، للتصريح عبر إذاعة “شام إف إم” المحلية، بأن تقنين المياه ليس مرتبطًا بالموارد المائية التي اعتبرها “جيدة”، بل بالتقنين الكهربائي.
وفي الوقت نفسه، ربط مدير التخطيط نقص مياه الشرب في ريف طرطوس باستهلاكها من قبل القطاع الزراعي.
ووفقًا لمدير التخطيط، تم استثناء العديد من المشاريع من التقنين لتأمين المياه، كما يرى أن النظام المائي الموجود في دمشق نظام سهل يجري عن طريق الإسالة والتجميع، وتتعلق الصعوبات في الريف بضخ المياه وفترات الضخ القصيرة جراء التقنين.
وتعاني مناطق سيطرة النظام من غياب التيار الكهربائي لساعات طويلة، ضمن تقنين يأتي بالكهرباء لساعات قليلة في اليوم، ما أثر على العملية التعليمية ودفع بالطلاب في جامعة حمص إلى اللجوء للسكن الجامعي لتجاوز امتحانات عامهم الدراسي الحالي.
وكانت للكهرباء حصة من خطاب القسم لبشار الأسد، الذي اعتبر حل مشكلتها مرتبطًا بالاستثمار في توليد الطاقة البديلة، مشيرًا إلى أن دعم هذا القطاع سيتجلى في السياسات والتشريعات، دون تقديم رؤية واضحة أو جدول زمني محدد يبشر المواطنين ضمن مناطق سيطرته بموعد محدد لانخفاض وتيرة التقنين.
محروقات متعددة المصادر
وتحتل أزمة المحروقات مرتبة متقدمة أيضًا ضمن الأزمات التي تعاني منها مناطق سيطرة النظام، وتتجلى هذه المشكلة بسيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على أهم حقول النفط في مناطق شمال شرقي سوريا، بدعم من القوات الأمريكية، كحقلي “رميلان” و”الشدادي” في محافظة الحسكة، وحقلي “العمر” و”التنك” في محافظة دير الزور.
ورغم بيع “قسد” النفط لعدة جهات، من بينها حكومة النظام، فإن ما يصل إلى النظام من نفط شمال شرقي سوريا لا يكفي لسد احتياجاته من الكنز السائل.
إذ يحتاج النظام السوري بشكل يومي إلى 110 آلاف برميل نفط، يؤمّن عبر حقول البادية 25 ألفًا منها، ويهرّب ما لا يتجاوز 20 ألف برميل من مناطق “الإدارة الذاتية” عبر رجال أعمال مقربين من السلطة، أبرزهم حسام قاطرجي، ويستورد الباقي على شكل بواخر تصله من إيران، عبر قناة “السويس”، وصولًا إلى مصفاة “بانياس” بشكل مباشر.
وفي لقاء أجراه مع قناة “الإخبارية السورية” الرسمية، في 18 من آذار الماضي، قال وزير النفط في حكومة النظام، بسام طعمة، إن خسائر قطاع النفط في سوريا تجاوزت 92 مليار دولار أمريكي.
واقع القدرة على تغذية قطاع المحروقات ربطه النظام بالسفن الإيرانية التي يتذرع مع كل نقص في المحروقات يدفع الناس نحو طوابير المحطات، بتأخر هذه السفن المحملة بالنفط الإيراني، والتي تزايد اللغط حولها مع تعرض بعضها للاستهداف في ميناء “بانياس”، وتبادل الاتهامات بين إسرائيل وإيران باستهداف السفن التجارية التابعة لهما.
وأمام الحاجة الملحة التي لم يستطع رفع الأسعار المتواصل كبحها، يغض النظام الطرف عن محاولات تهريب المحروقات التي تجري بشكل شبه يومي من الأراضي اللبنانية، وفق ما يعلنه الجيش اللبناني.
ومنذ 11 من تموز الماضي، بلغ سعر ليتر المازوت بعد رفع سعره من قبل حكومة النظام 500 ليرة سورية، بعد رفع أسعار البنزين “أوكتان 95” إلى ثلاثة آلاف ليرة في 7 من الشهر نفسه.
كما اتجه النظام، في نيسان الماضي، لإنشاء غرفة عمليات روسية- إيرانية- سورية، لتأمين تدفق مستقر لما يحتاج إليه من إمدادات النفط وبعض المواد الأخرى كالقمح، الذي أدى النقص الحاد في كمياته إلى تحديد مخصصات المواطن السوري من الخبز بربطة واحدة كل يومين، وعبر “البطاقة الذكية”.
وتعكس المشكلات الاقتصادية التي تظهر بشكل متتابع في مناطق سيطرة النظام هشاشة البنية الاقتصادية وغياب الحلول الحكومية، فما إن تتراجع وطأة أزمة معيشية ما، حتى تبز أزمة مختلفة أشد وطأة من سابقتها يدفع ثمنها المواطن السوري من لقمة عيشه.
وكان الأسد قال خلال استعراضه واقع البلاد الاقتصادي ضمن خطاب القسم الدستوري، “كلامي هذا لا يعني أن الأمور بخير أبدًا، أنا لم أقل ذلك، لكن هذا يعني أنها غير مستحيلة”.
إلى أين يتجه الوضع الاقتصادي في مناطق نفوذ النظام
مع تفاقم كل أزمة اقتصادية أو معيشية تبرز وعود حكومة النظام، إلى جانب مبرراتها للأزمة، بالسيطرة على الأوضاع المعيشية المتأزمة أو بمرحلة مقبلة أكثر استقرارًا تتحسن فيها ظروف المواطنين.
كما يرافق القرارات الاقتصادية أو المالية التي يتخذها النظام ورأسه ترويج وضخ إعلامي حول جدوى هذه القرارات وقدرتها على السيطرة على زمام الأمور، كالترويج الإعلامي الذي حظي به قانون حماية المستهلك الجديد الصادر في نيسان الماضي.
وأصدر بشار الأسد، في نيسان الماضي، المرسوم التشريعي رقم “8” لعام 2021 المتضمن قانون حماية المستهلك الجديد، الذي يضم 83 مادة تنظم أحكام البيع والتخزين والجودة والعقوبات، وتنظم عمل جمعيات حماية المستهلك، إلى جانب أحكام عامة.
روّج مسؤولون في النظام لفوائد وأهداف هذا القانون الذي تضمّن غرامات وعقوبات بالسجن لمخالفيه، على الرغم من مطالبات من التجار للوزارة بالتراجع عن تلك العقوبات التي “فاجأتهم”.
واعتبر رئيس الحكومة، حسين عرنوس، أن هذا القانون “جاء ليحمي الصناعة الوطنية عبر اجتثاث كل ما هو مجهول المصدر ومنتهي الصلاحية وغيره”، والنتيجة في الواقع لا تُقارن مع هذه الأهداف، فلم تجرِ السيطرة على الأسعار، والتجارة في السوق السوداء لا تزال نشطة، بحسب ما يورده النظام من “ضبط تمويني” لعمليات البيع والشراء فيها بشكل شبه يومي، في وسائل إعلامه.
ومؤخرًا، وعد عرنوس بأن المرحلة المقبلة ستشهد تباعًا قرارات “مهمة” لتنشيط القطاعات الإنتاجية وتحسين الواقع المعيشي لمختلف الشرائح، وفي مقدمتها شريحة العاملين في الدولة والعاطلين عن العمل حالما تسمح الظروف بذلك.
الحل بالتسوية السياسية
الباحث السوري في الاقتصاد أدهم قضيماتي، يرى أنه لا توجد عند النظام بدائل لمرحلة اقتصادية مقبلة سوى زيادة الضغط على المواطن السوري، ومزاحمته في قوت يومه، ورفع الدعم عن كل ما يتم دعمه من مواد غذائية أو محروقات.
لأن الوضع المعيشي في النهاية، باعتقاده، سيصطدم بأسعار “معوّمة” تتحكم فيها أداة العرض والطلب وتوفرها في الأسواق، لتكون الأسعار بذلك أغلى حتى من الأسعار العالمية في بعض الأحيان، وتكون حصة “تجار الحرب وأزلام” النظام من جيب المواطن.
ويتجه الوضع المعيشي في مناطق نفوذ النظام إلى أسوأ مما يعيشه السوريون اليوم، بحسب ما قاله قضيماتي لعنب بلدي.
ولا يمكن أن يكون هناك حل من أجل تحسين الوضع المعيشي في سوريا سوى بتسوية سياسية لا يكون الأسد و”تجار الحرب” التابعون له طرفًا فيها.
ولا توجد حلول اقتصادية ناجعة يملكها النظام، ويعتمد على زيادة تفقير السوري في مناطق نفوذه، بخلق أساليب وقرارات تخدّر المواطن “القابع تحت ظلمه وهيمنة قبضته الأمنية”، بحسب رأي الباحث.
ثلاثة سيناريوهات لمستقبل الدعم الحكومي
بحسب تقرير بعنوان “مستقبل الدعم الحكومي في سوريا: ثلاثة سيناريوهات متداولة”، صادر عن “برنامج أبحاث الصراع” (CRP) في 26 من شباط الماضي، هناك ثلاثة سيناريوهات متوقعة، عمليًا، لمستقبل الدعم الحكومي.
يتمثل السيناريو الأول في استمرار السياسة الحالية القائمة على ضبط عمليات الاستهلاك والتوزيع للسلع والخدمات المدعومة، كحصر توزيع معظم السلع المدعومة بـ”البطاقة الذكية”، الممنوحة لكل عائلة تبعًا لمعايير محددة، مع بقاء الباب مفتوحًا لإمكانية رفع أسعارها للتخفيف من فاتورة الدعم المتزايدة سنويًا، واستثمار بعض الوفر المتحقق لدعم شريحة موظفي الدولة ومتقاعديها.
ويتمثل السيناريو الثاني باستبدال الدعم الاجتماعي ببدل نقدي يقدم لكل أسرة، سواء من خلال الرواتب والأجور أو بطاقات الائتمان عبر حسابات مصرفية أو حتى عبر “البطاقة الذكية”، ووفق معايير محددة تراعي التوزع الجغرافي التنموي والنشاط الاقتصادي والمؤشرات الديموغرافية.
وما يخيف في هذا السيناريو، بحسب التقرير، هو إمكانية إيقاف الحكومة للدعم النقدي في أي وقت، وعجز الدعم النقدي عن مواكبة معدل التضخم الذي قد يتسارع مع تحرير أسعار بعض السلع المدعومة حاليًا.
أما السيناريو الثالث فيتمثل في تحويل الدعم الإنتاجي من دعم المدخلات إلى دعم المخرجات وفق محددات كمية وفنية بما يكفل جدوى الدعم وتحقيق الغاية منه دون هدر، مثل دعم المحاصيل الاستراتيجية عند تسليم المحصول وفق الشروط المطلوبة كمًا ونوعًا.
وهذا سيناريو تطبقه العديد من الدول، ويمكنه أن يحدّ في الحالة السورية من قضايا الفساد والهدر، ويشجع على إنتاج السلع والمواد المراد التوسع فيها حاليًا، إلا أن تطبيقه يحتاج إلى قاعدة بيانات ومعلومات واسعة وصحيحة، وهو غير متوفر حاليًا لأسباب كثيرة، منها وجود مساحات زراعية مهمة خارج سيطرة الدولة، وتضرر البنية التحتية لمؤسسات الدولة وفروعها في المناطق، وخروج بعضها عن الخدمة بسبب الحرب، بحسب ما ورد في التقرير.
وأمام هذه السيناريوهات، يبقى المواطن السوري وحيدًا في مواجهة أعباء الواقع الاقتصادي والتدهور المالي في مناطق نفوذ النظام السوري.
كيف يوازن السوريون بين دخلهم وإنفاقهم
أظهر استطلاع رأي أجرته عنب بلدي على منصاتها عبر الإنترنت، شارك فيه نحو 600 شخص، تباين النسب التي تدل على اعتماد السوريين على مصدر دخل واحد للإنفاق، مع موجات ارتفاع الأسعار في سوريا.
إذ تعتمد النسبة الكبرى على أكثر من مصدر لمحاولة الموازنة بين الدخل والمصاريف، وأبرز تلك المصادر الحوالات المالية من مغتربين خارج سوريا، والاعتماد على أعمال ثانية، كما تستغني عائلات عن أساسيات في حياتها لتخفض من معدل إنفاقها.
تحدثت عنب بلدي إلى مواطنين موجودين في مناطق سيطرة النظام، بريف دمشق وحلب وحمص، لمعرفة الأساليب التي يلجؤون إليها لموازنة مقدار دخلهم مع مصاريفهم في ظل الظروف الاقتصادية الحالية، وتحفظت على ذكر أسمائهم الكاملة لسلامتهم الأمنية.
عمل واحد لا يكفي
محمود- حمص- مدرّس مرحلة ابتدائية
يضطر محمود إلى العمل في مطعم كـ”كاشير” (محاسب صندوق)، نتيجة عدم قدرته على تحمل تكاليف معيشة أسرته التي لا يغطيها راتبه الشهري، الذي لا يتجاوز 60 ألف ليرة سورية (18 دولارًا أمريكيًا).
من دون عمله الإضافي، الذي يتقاضى من خلاله مبلغ 125 ألف ليرة في الشهر، لا يستطيع تدبر نفقات معيشته وأسرته المكونة من خمسة أفراد.
بيع الممتلكات وسيلة لتغطية المصاريف
نورس- حمص- موظف حكومي
باع نورس جزءًا من أرض ورثها عن والده، وبعضًا من قطع الذهب التي تحتفظ بها زوجته، ليشتري سيارة أجرة ويعمل عليها في دوام إضافي، إذ لا يستطيع أن ينفق على عائلته التي تتألف من ستة أفراد من راتبه في المؤسسة البالغ 50 ألف ليرة (15 دولارًا).
يدفع نورس مبلغًا بسيطًا لمراقب الدوام “ليغطي عليه” كونه يتأخر عن القدوم للعمل حتى الساعة الـ10 صباحًا، ويخرج من العمل الساعة الـ12 والنصف لمتابعة العمل على سيارته، ويستمر فيه حتى المساء، ومع ذلك، لا يستطيع أن يصرف على أسرته.
أُسر تستغني عن احتياجاتها الأساسية
صبحية- حلب- ربة منزل
استغنت صبحية (43 عامًا) عن احتياجات منزلها الأساسية وعن المأكولات التي تتضمن اللحوم، بسبب غلاء أسعارها وقلة الدخل المادي الذي يكفي بالكاد الحاجات الأساسية.
تعمل صبحية في تنظيف المنازل بعد وفاة زوجها منذ أربع سنوات، وأجور أبنائها، إن عملوا، قليلة جدًا، ولذلك اضطرت إلى العمل بسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة.
بحث عن مصدر ثالث
عبد الرحمن- حلب- موظف حكومي
يعمل عبد الرحمن (45 عامًا) في مغسلة سيارات بدوام إضافي من الساعة الخامسة عصرًا وحتى الواحدة ليلًا من أجل تأمين مستلزمات بيته، بسبب أن راتبه لا يكفي لأسبوع.
تعرض بعض زملائه في العمل للفصل والمعاقبة بسبب أخذهم مبالغ مقابل تسيير معاملات المراجعين، ولذلك كان أفضل حل هو تأمين عمل آخر.
يضطر عبد الرحمن للعمل على الرغم من طول فترة الدوام وقلة ساعات النوم، لتغطية متطلبات أبنائه في المدرسة، حتى إن الغلاء دفعه للبحث عن مصدر دخل ثالث ليغطي نفقات منزله.
حاجة إلى أجرة الطريق فقط
مريم- دمشق- طالبة جامعية
تجمع مريم أجور مواصلات نقلها من مكان سكنها في ريف دمشق إلى جامعة “دمشق” يوميًا، من فتات ما يتبقى لدى أمها من مصروف المنزل.
أن تؤمّن الطالبة مصروف أجور مواصلاتها، هو جلّ ما يهمها يوميًا، ولكن حلمها اليومي مرتبط بالكثير من الأمور حولها، كقيمة الحوالة التي ترسلها أختها المقيمة في ألمانيا بحسب استطاعتها الشهرية، وعدم احتياج المنزل إلى مصاريف فجائية عاجلة كإصلاح أجهزة قد تتعطل، أو حاجة فرد من العائلة إلى زيارة طبيب ما.
التخلي عن المؤونة
انتصار- ريف حمص- ربة منزل
لا تتيح الحالة المعيشية لانتصار (55 عامًا) المجال للتفكير بالغد، فتشتري مكونات طبختها كل يوم بيومه، إذ لا مجال لوضع المؤونة، أو زيادة كمية الطبخة لتكفي أكثر من يوم، في ظل وصل ساعة كهرباء واحدة مقابل أكثر من ثماني ساعات قطع.
تعتبر انتصار أن حالتها المعيشية أفضل بكثير من حالة العديد من أقاربها، كونها تعيش بمفردها مع زوجها، ويجهد أولادها لمساعدتها ماديًا في تذليل الصعوبات التي قد تواجهها، ولكن ذلك لا يواسيها في تخفيف ألم شوقها لولديها اللذين غادرا بحثًا عن مستقبل أفضل في بلاد اللجوء.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :