جريدة عنب بلدي – العدد 44 – الاحد – 23 -12-2012
عتيق – حُمص
أسابيعٌ قليلة –ربما- تفصلنا عن الحسم النهائي، لثورةٍ عظيمة فاقت كل التصورات، ثورةٌ أراد لها العالم بأسره أن تفشل أولًا، ثم أن تسير وفق رغبته ثانيًا، فلم يكن على الأرض إلا ما أراده الله ثم الشعب الثائر.
واحدةٌ من أهم معجزات الثورة التي يجب أن ننتبه إليها ونرعاها وننمّيها، هي الاعتماد على الذات، وخاصّة بعد أن فشل المسار السلمي في انتزاع السلطة من فكّي هذا النظام. فمقاتلو الجيش الحر هم عرب سوريون (رغم التحاق أعداد قليلة من العرب والأجانب ممن رغبوا في رفع هذا الحيف عن بلادنا)، دون أن يكون لهؤلاء المقاتلين دعمًا دوليًا، أو غطاءً جويًا، لقد اشترى السوريون بأنفسهم سلاحهم، ودفعوا ثمنه من حليّ نسائهم، ومقدّراتهم، ثم عندما ضاقت عليهم الأمور، راحوا يصنّعون الأسلحة المتوسطة بأنفسهم، كمنصّات الهاون، وراجمات الصواريخ، والسيّارات الحربيّة، ورغم تواضع هذه الإنجازات أمام ما كان يمكن الحصول عليه من الغرب
في حال الدعم المباشر والحقيقي، فإن أثر تراكم هذه الخبرة وهذه العقليّة (التصنيع المحلي) يمكن له لو استثمر ونمّي أن يشكّل مدخلًا حقيقيًا لنهضة صناعيّة محليّة.
إنّ الحضارة فعلٌ تراكمي، لا يمكن الحكم عليه طالما كان في صيرورة مستمرة، ويلاحظ المراقب أنّ الأمر بدء مع إصلاح بعض الأسلحة الخفيفة، التي لم يكن من السهل أبدًا رميها وشراء قطع جديدة بدلًا عنها، لقد دفع الحرمان والحاجة (كعادتها) العقل لمحاولة إصلاح الموجود.
وهنا كانت لحظة الإشراق الحضاري، لقد اكتسب العقل السوريّ ثقةً (ولو بسيطةً للغاية، وغير ملحوظة في البدايات) بنفسه، فما كان إلا أن شجعه هذا (مع ضغط الحاجة) على إدخال تعديلات بسيطة على هذه الأسلحة، ومع المحاولات نجح
هذا الأمر حقًا، واكتُسبتْ ثقةٌ إضافيّة، دفعت لاحقًا إلى محاولات تقليد الأسلحة التي لطالما الثوار كانوا يرغبون بامتلاكها، وهذا ما بتنا نشاهده على اليوتيوب وغيره، وإن شاء الله ستكمل الدورة
الحضاريّة خطوتها إلى مجال الابتكارات الجديدة التي نحتاجها على الأرض.
وهذا ما يجب أن نكون واعين له، ومشجعيّن عليه، إنّ المردود الحضاريّ والصناعيّ الذي سنكتسبه من تنميّة هذه المهارات أهمّ بمئة مرّة (على المدى البعيد) من شراء سلاح جاهز.
هذه الخبرات التصنيعيّة بعد أن تُنمّى يمكن استثمارها بسهولة أكبر في مجالات التصنيع الأخرى، كتصنيع آلات البناء، والزراعة، وحتى السيارات، ولقد اطلعتُ منذ فترة على موقع أجنبي، يؤمن بأحقية إتاحة المعرفة وعدم احتكارها، وهو يعرض لخمسين آلة تقوم عليهم النهضة الصناعيّة اليوم، بشرح مفصّل لكيفية تصنيعها محليًا، وبكلف زهيدة للغايّة، وتحقق بذات الوقت مردودًا أعظم من تلك الآلات الأجنبيّة الجاهزة التي نشتريها، كما يثبت الموقع!
فما الذي نحتاج إليه والمخطّطات جاهزة، والشروح وافية؟ نحتاج إلى عقل يؤمن بقدرته على التصنيع، وبأهميّة ذلك، وإلى يد تملك الخبرة في التعامل مع الحديد والصلب، وهذا ما يتبلور حاليًا في ظل الثورة، وما يجب أن نستثمره ليتحوّل إلى نهضةٍ صناعيّة كاملة!
إنّ الثورة السوريّة هي برهان نجاعة الاعتماد على الذات، وقدرته (التراكميّة) على تحقيق تغيير جذري عميق، ومقدّمات نهضةٍ حقيقيّة، إنّ النهوض بالمجال الصناعي سيغنينا عن الخارج (الذي استغنينا عنه مؤخرًا بفضل الله أولًا وبفضل جهود جيشنا الحر ثانيًا) في عمليّة بناء سوريا، التي يسيل لعابهم على جني الأرباح والمليارات منها، وليغرقوا البلد في بحر الديون، ومتاهات الإملاء السياسي.
لقد بقي الإنسان القديم منذ آدم وحتى مشارف القرن الماضي يبني بيته بنفسه، ومن المواد المتوافرة في بيئته، وباعتماده على ذاته وأبناء مجتمعه، وهذا ما يمكننا حقًا أن نقوم به اليوم، ولهذا نشدّد على أهمية تنمية الخبرات التصنيعيّة، لنبني سوريا القادمة بأنفسنا، كما تخلصنا من عهد الأسد بأنفسنا، والله معنا، هو نعم المولى، ونعم النصير.