ينطلق الفيلم الإسباني “The Endless Trench” من حدث واقعي إسباني البيئة، قابل للتعميم على كل المجتمعات المبتلاة بحكم الديكتاتوريات، وسلطة الاستبداد.
وقضية الفيلم مستمدة من أحداث واقعية تعود إلى منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، حين شهدت إسبانيا انقلاب الجيش الإسباني ضد الجمهورية الثانية، واندلاع الحرب الأهلية التي قادها الاشتراكيون الذين خسروا السلطة ضد النظام القومي.
“إيهينيو” بطل الفيلم واحد من هؤلاء الاشتراكيين المناهضين للسلطة المستبدة، ويمكن اكتشاف ذلك من أول مشاهد الفيلم، حين يستيقظ البطل جراء طرق همجي على باب بيته، لينقله هذا الطرق بلحظات من سريره الدافئ إلى سيارة عسكرية تحمله إلى مصير مجهول.
وبعد نهاية الحرب الأهلية عام 1939، وتولي الجنرال فرانشيسكو فرانكو السلطة، تضيق البلاد بالاشتراكيين الذين يبحثون عن ملاذ آمن للإفلات من القبضة العسكرية التي شددها فرانكو على معارضيه.
وفي طريق “إيهينيو” إلى المجهول، يتمكن من الفرار بأعجوبة ليصل إلى بيته. هذا المكان سيصبح مع تتابع أحداث الفيلم أكثر من مجرد منزل، فالبطل سيبقى عالقًا أو سجينًا بمنزله طوال 30 عامًا، وتحديدًا في ركن ضيق أُقيم تحت الجدران، شرّعت الضرورة وجوده.
وإذا كان الاستبداد يلقي بالناس في سجونه، فهو أيضًا يلقي بهم في سجونهم، فالبطل لا يقبع خلف القضبان، لكنه لا يرى سوى زوجته “روسا”، التي صارت عينيه اللتين يبصر بهما العالم الخارجي، وأذنيه اللتين تتلقفان له أخبار الحراك السياسي، والأنشطة الاشتراكية.
وكل ذلك دون جدوى، إذ لا تتيح حياة السجن الذاتي التي اختارها “إيهينيو” واضعًا نفسه بما يشبه “المنفردة”، سوى الانتقال من السجن الذي سكنه في بيته، إلى سجن آخر، تحت الأرض طبعًا، في بيت والده، كونه ملاذًا أكثر أمنًا، وذلك بعدما قضى ثلاث سنوات محاصرًا خلالها في ركن ضيق من منزله.
حوارات قصيرة وأغلبيتها من وراء الحجب تجمع الرجل بابنه، وبعد ذلك يموت الأب ويحمل نعشه من منزله، دون أن يستطيع الابن المشاركة في جنازة والده ومنحه قبلة الوداع.
يسخّر الفيلم لغة التفاصيل لخدمة القضية، ويسعى لاختصار 30 عامًا قضاها “إيهينيو” مختبئًا، ضمن ساعتين ونصف من العرض السينمائي، للتعبير عن أشخاص اختاروا حبسهم في منازلهم خوفًا من الجنرال فرانكو.
الإضاءة خافتة في الغالب، لا توحي بالحياة، ولا جدوى من الموسيقى أمام الخوف، إذ يمكن قراءة ذلك وفهمه وحتى الشعور به، بمجرد فهم موقف البطل وظروفه المحيطة، وفي ذلك مؤشر قوي لإتقان الأداء والاشتغال على المعنى، لإيصال الرسالة بجوهرها وفحواها، لا بالمؤثرات الجانبية.
ورغم تصوير الفيلم بأغلبية مشاهده ضمن المنزل، فإن الفيلم ينأى عن الملل، وساعد في ذلك تقسيمه لـ13 فصلًا معنونًا، يفسّر كل عنوان منها ما يليه من أحداث، دون قتل التشويق، بالإضافة إلى التركيز على المعاناة الفردية لنقل المعاناة الجماعية، فالبطل المختبئ في مساحة ضيقة يعبّر عن آخرين مختبئين من قبضة الاستبداد أيضًا.
وبينما تمر السنوات سريعة على المشاهد بحيل إخراجية تعبر عنها، تمر ثقيلة على “إيهينيو” الذي يقطع الحبل السري مع العالم الخارجي، ويتحول عالمه إلى ركن ضيق مزود بالإنارة والقليل من الكتب، يرتدي ملابس زوجته التي تمثل أمام الناس دور الأرملة، وتعيش خلف جدران منزلها حبّها وحياتها الزوجية التي لا تخلو من الجدران، فالمخبأ تحت الجدار، وتخوف الزوج من افتضاح أمره، وشكوكه بزوجته، يبني جدارًا آخر.
ممارسة الزوجة “روسا” حياتها الطبيعية وخروجها إلى الشارع والشمس والحياة، مقابل بقاء زوجها في عتمة سجنه السري، جدار آخر، لكنها جدران هشة، تتهاوى سريعًا أمام حبهما الذي سيكافئه القدر بعفو متأخر يصدر بعد 30 عامًا، يمنح “إيهينيو” الحق في عيش حياته، بعدما بدد الخوف والاستبداد 30 عامًا منها، ويستمر في تبديد حياة شعوب بأكملها في مناطق مختلفة حول العالم.
صدر الفيلم عام 2019، وتشارك بطولته أنتونيو دي لا توري، وبيلين كويستا، وحصل على تقييم 7.2 عبر موقع “IMDb”، لنقد وتقييم الأعمال الدرامية والسينمائية، وهو متاح للمشاهدة عبر منصة “نتفليكس”.
حصد فيلم “The Endless Trench” العديد من الجوائز، وأخرجه كل من جون غارانيو، وآيتور أريجي، وخوسيه ماري غوناغا، الذي شارك في كتابة السيناريو إلى جانب لويس بر ديغو.
–