قنديل ضاهر
هنا حمص، لم تعد الحرب حامية في قلب المدينة، إلا أنّ البلاد بأكملها باتت أشبه بأراضٍ مرقّعة ومعزولة عن بعضها. تبدو مدينة حمص كرقعة منهكة تصغر أكثر، وتكتظ وتتكاثر الجدران والحواجز فتضيق أنفاس من فيها ويفضلون الرحيل، فباتت الهجرة حديث كلّ أسرة، سواء كانت معها أم ضدها.
«الأعداء من أمامكم والبحر من خلفكم»، يضحك جابر حين يتحدّث ساخرًا، ثم يتابع كيف خسر مستقبله ومحلاته التجارية في السوق ويبرر رغبته في الهجرة، «لا أملك رأس مال لأباشر بأيّ تجارة جديدة وأسعار السلع يتضخّم بشكل كبير مقارنة بدخل المواطن … تجاوزت الأربعين ولا أعرف أي مستقبل ينتظرني، لكنني أعرف تمامًا أن من واجبي مساعدة أولادي لتأمين مستقبل أفضل، لا ينتظرون فيه لساعاتٍ مقابل الحصول على ربطة خبز أو ليتر مازوت أو للقيام بأي معاملة بسيطة».
لا يقتصر الأمر على من يريد النجاة بمستقبل أطفاله، فكل من تبقى من جيل الشباب هاجر أو يفكر في الهجرة بعد الانتهاء من دراسته الجامعية، والقاطن بحمص يلاحظ انتشار إعلانات المكاتب المخصصة لحجز المواعيد في سفارات الدول الغربية في لبنان، سواء لطلبات لم الشمل أم للطلبة المقبلين على استكمال دراستهم في الخارج.
عمر، طالب هندسة في سنته الدراسية الأخيرة، يقول «أشعر أنني في سجن، منذ أعوام لم أغادر الحي الذي أسكنه، أذهب إلى الجامعة مشيًا، فوسائل المواصلات والتنقل بين المناطق ضمن المدينة الواحدة باتت كابوسًا لكثرة حالات الاعتقال … من الطبيعي السعي نحو فرص ما في الخارج، هنا لا يمكن التفكير بالمستقبل الدراسي أوالعمل».
يضيف عمر أنه يعيش هذا العام تحديًا كبيرًا بين التخرج والاستعداد لاستكمال الدراسة في الخارج، «بالكاد أجد وقتًا بين التحضير لحيازة الشهادات التي تتطلبها المنح الدراسية واجتيازها، كنت أطمح بالبقاء في مدينتي لكن ليس لديّ خيار آخر».
إلّا أنَّ قرار جامعة البعث، الذي سيتم تطبيقه، قد يغير من خطط من اختار الانتظار، فقد عُمِمَ أمر يعرقل تسليم أيّ شهادة جامعيّة رسميّة للذكور قبل إتمام الخدمة العسكرية الإلزامية، وإنْ لم يُعلَنْ عن موعد تنفيذ القرار بعد.
وبين هجرة خارجية وداخلية، تودع حمص جيلًا كاملًا من الشباب وتستقبل المزيد من المدنيين الهاربين من نيران المعارك والقصف من ريفها.
ميسم، الهاربة من قصف الطيران الحربي لبلدة تير معلة، تقيم منذ أيام مع عدد من أفراد أسرتها في حمص، تقول إن زوجها أصيب بالقصف العشوائي وبقي عالقًا في البلدة، «يخبرني زوجي ألّا أفكر بالعودة»، لكن ميسم وقعت في أزمة جديدة، فمدارس حمص لم توافق على تسجيل أولادها، «الأعداد لا تسمح، ستون طالبًا في الصف، لا أعرف ماذا سأفعل، لم أعد أريد سوى تأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة، أشعر أنّني متروكة وحدي مع أطفالي».
حالة السيدة ليست الوحيدة في واقع الحمصيين المهجرين من الريف الشمالي للمحافظة، حيث يشن الطيران الحربي هجماته مؤخرًا.. خرجوا بأرواحهم، دون اصطحاب أي أمتعة أو ممتلكات، ليصبح نزوحهم حلقة في مسلسل التهجير الطويل الذي يتسبب به القتال في حمص.
تروي سميرة حكاية خروجها من تدمر، بعد أن قطعت داعش رأس زوج أختها أمامهم، لاتهامه بالتعامل مع النظام، لكونه موظفًا حكوميًا في حمص، «جميع أطفال العائلة شهدوا ما جرى، ابني البالغ من العمر ثماني سنوات يعاني من نوبات هلع مفاجأة كل ليلة»، ليس ذلك فحسب، فقد أسر التنظيم أخت سميرة، واتخذوها سبية بحسب عناصره، «لقد عرضوا علينا شراءها منهم لقاء مبلغ كبير … بعنا كل ما لدينا من مصاغ وممتلكات وانتظرنا لأسابيع قبل أن نتمكن من تحريرها، واستلامها من مكان على حدود العراق».
من تبقى من العائلة هاجروا بحرًا نحو أوروبا، «تبدو مخاطر الغرق لطيفة قياسًا بما مررنا به، لم يعد لدينا ما نخسره، أدفع شهريًا ما يقارب 40 ألف ليرة كأجرة لبيت في منطقة المخيم، ريثما تتم إجراءات لم شملنا مع زوجي في ألمانيا، أغلب من يسكن المخيم نازحون من تدمر، فقد هاجر أغلب الفلسطينيين المقيمين هنا».
يخشى أهل حمص طمس هوية مدينتهم ومحوها، وسط دوائر نيران تحيط بهم من كل الجهات، لكنّ خوفهم من مآلات غدهم يبدو أكبر هذه الأيام، وسط أرض تلتهب كجرح مفتوح منذ سنوات بانتظار نهاية لا تبدو قريبة.