ما الذي يضطر أهالي الدير للسكوت عن جلد نسائهم؟
“ردة حضارية” في البنية الاجتماعية لسكان مناطق “الدولة الإسلامية”
سيرين عبد النور – دير الزور
لا يمكن توصيف ما يحدث في مدينة دير الزور سوى أنه «ردة حضارية»، فبعد تدمير «الدولة الإسلامية» للاقتصاد المحلي والفصائل العسكرية المناهضة له، كان لا بدّ من كسر العقبة الأخيرة لإحكام السيطرة على المجتمع وإخضاعه، فبدأ التنظيم تغيير أنماط الحياة الاجتماعية التي تتنافى مع مفاهيمه وأحكامه بمختلف مستوياتها وأشكال إدارتها.
أخذ التنظيم يعمل على تغيير طريقة حياة الأسر، ويرى العديد من الناشطين أنه يؤلب الأهالي على بعظهم ويزكي من يضحون بذويهم في سبيله، إذ تكثر القصص عن وشاية الأخ بأخيه وأبيه وأمه لأمنيي «الدولة» ولو أدى ذلك إلى تقديمهم لـ «السيّاف».
وبدأت مفاهيم المجتمع ونظرته نحو التعليم والمرأة والطفل والعمل وأسس علاقات الأفراد والعائلة تتحور، وهي محاولة بحسب العديد من الباحثين لتغيير أنماط السلوك في المنطقة، وتبدو جليةً من خلال إجبار الأهالي على ارتداء أزياء معينة وتحديد أشكال الحلاقة وأمورٍ أخرى تشكل وسائل لتطويع المجتمع وتوحيد شكله وصهره داخل جسم «الدولة».
ويرى الكاتب والباحث زهير مشعان أن التدخل في هذه العلاقات جريمة ترتكب مع سابق إصرار وتصميم من التنظيم، ويقول ’’إنهم يقصدون تحطيم كل شيء سواء في بنية الدولة أو المجتمع، بدءًا من التعليم ووصولًا إلى التاريخ وحتى العادات والتقاليد وكل القيم الاجتماعية والأخلاقية، بهدف تدمير بنية المجتمع وتحويله إلى بيئة هشة يمكن السيطرة عليها».
تشهير علني
فجّر تسجيل مصور بثه ناشطو حملة «دير الزور تذبح بصمت»، الأحد 18 أيلول، موجة كبيرة من الاستياء والتنديد محليًا وعالميًا وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر فيه قيام عناصر «الدولة» بجلد عدد من النساء من قرية الكشكية بشكل علني بتهمة التعدي على أملاك التنظيم.
لكن السؤال الأبرز الذي بقي مطروحًا، هو هل نجحت «الدولة الإسلامية» في تطويع البيئة الاجتماعية في مدينة دير الزور لدرجة أن أي تصرف يقوم به العناصر أصبح مقبولًا أو مسكوتًا عنه على الأقل؟
يقول علي الفرحان، أحد ناشطي المدينة، “ما نراه اليوم شرق سوريا مشاهد كانت من المستحيل حدوثها أو تخيلها لقد كانت ضربًا من الجنون، أما اليوم فهي ممارسات يومية لعناصر التنظيم».
الفرحان يعتبر أن هدف هذه الممارسات هو ’’إذلال الأهالي والتأكد من سكوتهم، كما أنه يوجه رسالة لمن يهمه الأمر أننا ملكنا زمام الأمور في هذه المنطقة ولا نخشى أي مقاومة».
كان التعدي على إحدى النساء يشعل ثورات في وادي الفرات حيث مكانة المرأة مقدسة وحرمتها لا تمس، وقد تجنب الكثير من المحتلين تاريخيًا وجميع السلطات المحلية السابقة إثارة هذه القضايا خوفًا من ردات الفعل المحتملة للسكان؛ لكن التنظيم تجاوز الجميع ودمر الخطوط الحمراء وهو يضرب النساء ويعتقلهن ويعذبهن، دون أن يكون هناك مقاومة أو اعتراض.
كيف هيأ التنظيم مناطق سيطرته؟
ممارسات مستمرة ومتدرجة منذ بداية بسط السيطرة، في الوقت الذي يلجأ السكان للسكوت أو عدم تصديق أن مهاجرًا قطع كل هذه المسافة «لنصرة الدين والشعب السوري» سيقدم على أفعال جنائية مشينة وانتهاكات غير إنسانية.
وساعد على ذلك، بحسب أحد الناشطين (الذي رفض الكشف عن اسمه)، رغبة أهالي المنطقة بأي دعم أو مساندة لتخليصهم من ظلم النظام أو بعض الفصائل المسلحة، إلا أنهم تفاجؤوا بزوال الصورة الوردية التي كانت مرسومة في أذهان الكثيرين عن المهاجرين.
ويضيف الناشط «اختفت صورة الفرسان ذوي الأخلاق العالية، ليحل مكانها واقع أقل ما يوصف بالغريب والمقرف لمقاتلين دمويين يسلبون ويقتلون ويغتصبون، وإن اختلفت تسمية ذلك لديهم أو ألبسوه رداءً شرعيًا».
وبالتدريج بدأ السكان يسمعون عن ممارسات وتجاوزات عناصر “الدولة»، كسلب المنازل والأملاك والأراضي تحت ذرائع متعددة، منها الردة، الكفر، الصحوات، موالاة النظام، مولاة الكافرين والعمل ضد التنظيم.
يقول عمر، أحد سكان حي الحميدية، لعنب بلدي ’’ساعدت ممارسات التنظيم في إخضاع البيئة الاجتماعية من خلال الإمعان في ترهيب الأهالي وإذلالهم وسجن وتعذيب كل رافض أو مستنكر».
وسائل متعددة
ويعمد التنظيم إلى ضم الشخصيات المهمة والمؤثرة (الجاهات) في المدن والقرى الخاضعة لسيطرته، ليكونوا مركز جذب يلحق الناس بركب «الخلافة» ويقنعهم بأفكاره، وذلك للسيطرة على القرار في العائلة والعشيرة وجعلها ترجع إلى مشايخ التنظيم ورجالاته.
كما يحاول جعل الخوف من «الدولة وحدودها» هو من يحدد أولويات القرار في هذه الدوائر الاجتماعية، ما يسمح بإحكام قبضته وترسيخ حكمه.
إلى جانب ذلك، يحاول الشرعيون تأليب الناس على بعضهم وتشجيعهم على الالتصاق بالحاضنة الوحيدة التي تستحق الولاء المطلق وهي «دولة الخلافة».
ورغم فشل «الدولة» في هذه المحاولات إلا أنها تركت أثرًا لا يستهان به في المجتمع، خصوصًا أن أغلب المناطق التي يعمل فيها التنظيم ينتشر فيها الجهل، كما أن استخدام «ثوب الدين» أفاده بشكل كبير في جذب قطاعات واسعة وإقناعهم بشرعية ممارساته وضرورتها.
بدوره، يستعيد الباحث طه العبيد بعض الحوادث التاريخية على حكم أشخاص لبيئات مختلفة عمّا عهدوه في مواطنهم، وردود الفعل التي يخلقها هذا الأمر وتأثير التربية البدوية في أذهان العناصر ليبرر تصرفاتهم ونمط تفكيرهم، مشيرًا إلى الذكاء الواضح في المؤسسة الأمنية التي تدير التنظيم وكيف أبدعت في استخدام أدواتها لتذليل المجتمعات المحلية بطرق شرعية.
ويدلل على كلامه بتصرفات المهاجرين الجزراويين (السعوديين) والتونسيين تحديدًا، وهم العناصر الأكثر إثارةً للمشكلات مع الأهالي والأكثر تعديًا، إذ يركز التنظيم على توزيعهم في أجهزة الحسبة والشرطة الإسلامية، الجهازان اللذان يساهمان بشكل رئيس في تطبيق قوانين التنظيم الشرعية والاجتماعية، دون أن يعي أغلب عناصرهما ما يقومون به من تغيير شكل المجتمع.
العبيد يرى أن أقرب مثال لما يحدث هو «غزوات البدو» على المدن بدايات القرن الماضي، لكن هنا تطول الغزوة وتكون السيطرة مطلقة والحكم بلا قيود أو ضوابط، وهذا ما يثير المخاوف من الآثار التي سيتركها مثل هذا الغزو على العادات والتقاليد الاجتماعية الشامية وأنماط السلوك التي تعتبر حضارية ومنفتحة.
مناطق مغلقة
يتّم التكتم على كثير من القصص التي تشين التنظيم وتفضحه، خصوصًا وأن أغلب الناشطين غادروا المنطقة فباتت شبه معزولة بعد قطع ما يربطها بالعالم الخارجي كالإنترنت.
كما أن «الدولة» بدأت تصعب بشكل تدريجي إجراءات الدخول والخروج إلى مناطقها، وكان آخرها تسجيل أسماء الداخلين والخارجين وإجبارهم على الخضوع للتحقيق ولإجراء دورات شرعية.
وعليه، نجح التنظيم بإخفاء 90% مما يحدث في مناطقه، بحسب عمر، “يسكت الجميع في مملكة الصمت والخوف والسواد لأن ظلال الخليفة هي ظلال الله، وظلم الخليفة يجب أن يقبل بصدر رحب ورأس منخفض وإلا فالسياف جاهز والسجن موجود».
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :