محمد رشدي شربجي
يحلل المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتبه مشكلات الحضارة، ويختصر المشكلة، التي يكررها كثيرًا، أنها في القابلية للاستعمار وليس الاستعمار نفسه، أو القابلية “للاستحمار” وليس الاستحمار، بحسب تعبير الفيلسوف الإيراني الشهيد علي شريعتي، ولذلك اعتبر بن نبي أن مشكلة فلسطين ليست إسرائيل وإنما العرب أنفسهم، ولكن مع الإقرار بهذه الحقيقة التي لا تقبل الجدال، فإنه يجب القول كذلك إن مشكلات العالم العربي، وخاصة تلك التي تسمى دول المواجهة” كان حلها أسهل بكثير لولا وجود إسرائيل في قلب العالم العربي.
كانت القضية الفلسطينية حاضرة منذ البدايات الأولى لتشكيل الدولة السورية ما بعد الاستقلال 1946، فبعد ثلاث سنوات من التحرر من الاستعمار الفرنسي افتتح حسني الزعيم عام 1949 “عادة” الانقلابات في الشرق الأوسط والعالم العربي، معلنًا هيمنة العسكر على السلطة في سوريا، ويشير فاروق الشرق في مذكراته أن هذا الانقلاب حظي بتأييد جماهيري منقطع النظير في بدايته (بالرغم من أنه لم يدم إلا أشهرًا قليلة)، حيث ادعى الزعيم أن انقلابه جاء ليحرر فلسطين بعد أن فشلت الجيوش العربية في تحريرها 1948، وعلى منوال انقلاب الزعيم سارت بقية الانقلابات حتى انقلاب البعث في سوريا والعراق 1963 لكل منهما، وانقلاب حافظ الأسد 1970، حتى السوريون وهم يضحون بنظام شبه ديمقراطي في سبيل وحدة “عرجاء” مع جمال عبد الناصر، كانت أعينهم صوب تحرير فلسطين الذي ستنجزه “الوحدة” مع مصر.
لم ينس صدام حسين طبعًا في حربه لثمانية أعوام مع إيران أو حربه مع الأكراد لعقود أن يخبرنا أنه يفعل ذلك دفاعًا عن الأمة العربية وفلسطين، والأكثر طرافة اشتراطه لانسحابه من الكويت انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967، وليس خفيًا أن النظام السوري أكثر من باع واشترى في القضية، واستغلها دائمًا كرافعة لفك عزلته الإقليمية والدولية، حتى وهو يشن حرب إبادة على الفلسطينين في حرب المخيمات في منتصف الثمانينيات، ويطارد ياسر عرفات في لبنان كان يقول لنا حافظ الأسد أن ذلك في سبيل فلسطين، كما أن تخلي العرب عن فلسطين وخروج مصر بشكل خاص من المعادلة أتاح لإيران التغلغل في البلاد العربية باسمها من خلال ميليشيات “محور الممانعة”، وهو ما نجني ثماره إلى اليوم في القصير والقلمون وحلب، التي يمر “طريق القدس” منها، بحسب حسن نصر الله.
وكما كانت القضية ميدانًا للمبارزة السياسية بين الأحزاب والأنظمة الحاكمة في العالم العربي، كانت أيضًا حاضرة في ميدان المبارزة الفكرية، فالمتابع لمسار الفكر العربي، يدرك أن لحظة انكسار القومية العربية والتي مثلتها “ظاهرة” جمال عبد الناصر، كانت هزيمة حزيران 1967 المذلة، لينطلق بعدها تصاعد المد الإسلامي ردًا على فشل “القوميين” “العلمانيين” في تحرير فلسطين، فـ”فلسطين لن تتحرر حتى ترى أعداد المصلين في صلاة الفجر كما هي في صلاة الجمعة كما قالت غولدامائير” (لم تقل غولدامائير ذلك بالمناسبة)، ثم انتقلت مرة أخرى إلى ميدان المبارزة الطائفية، ففلسطين “لا يحررها إلا من كان على دين عمر بن الخطاب وصلاح الدين الأيوبي الذي دمر الدولة الفاطمية في مصر قبل توجهه إلى فلسطين”.
حتى في الربيع العربي الذي بدت القضية الفلسطينية بعيدة عن مطالبه، كانت الشعارات المناوئة لإسرائيل والمطالبة بتوجه الجيش السوري إلى الجولان وليس درعا حاضرة دائمًا.
لا يتسع المقال هنا لذكر مسار القضية الفلسطينية بالتأكيد، فهذا يحتاج إلى مجلدات، ولكن ما نريد قوله إن وجود إسرائيل على رأس أولويات السياسة العالمية صاغ المشرق العربي والوعي العربي كما نعرفه اليوم، ديكتاتوريات وحشية دموية شُرعنت، وثورات وُئدت، ومجازر مهولة تم السكوت عليها وتغطيتها كرمى لإسرائيل، وباختصار فإن القضية كانت مطية لكل الموبقات خلال تاريخ العرب الحديث.
ولكن بالرغم من التاريخ المرير، فإن هذا لا يجب أن يكون مدعاة للقدح في عدالة القضية ونبلها، ولا في ضرورة الاصطفاف معها ولها أينما كان، فاليوم يخوض الفلسطينيون انتفاضتهم الثالثة لوحدهم (كما هو الحال في كل مرة) بسكاكين المطابخ هذه المرة، بعد أن نزعت سلاحهم سلطة أوسلو بالتعاون مع الكيان، وبالتزامن مع هذا الجهاد العظيم تتكاثر تعليقات تشكك في جدوى الانتفاضة أو تشكك بالقضية نفسها وبأحقيتها.
لقد خبر السوريون خلال عقود من حكم الأسد ما خبره الفلسطينيون من الصهاينة، ولربما كان الاحتلال الأسدي أقسى في بعض مراحله، ولكن الاصطفاف مع الشعوب واصطفاف الشعوب مع نفسها لا يجب أن تعكره محاولة الأنظمة الحاكمة للاستئثار بالحريات والأخلاق على السواء، ولكي لا تزاود علينا شلل “القومجية والممانعجية” فإن الشعب البحريني يستحق حريته أيضًا، كما هو حال الشعب الفلسطيني والسوري، التي تعتقد (تلك الشلل) دائمًا أن حريته ستصب في صالح إسرائيل.