حنين النقري – عنب بلدي
قبل قرابة العام، بدأت إعلانات طرقيّة غامضة تغزو شوارع دمشق، ومختلف المحافظات الواقعة تحت سيطرة النظام، إشارة استفهام حلت محل رقم 5 في عام 2015، مثيرةً تساؤلاتٍ عدة لدى من يعيش في تلك المناطق عما سيحصل، ولسان حال كل منهم يقول «الله يجيرنا».
رُفع اللثام عن الغموض مع بداية العام وكانت حملة «2015.. عيشها غير”، التي شملت كلّ ميادين حياة السوريين في الداخل، بمحاولة من النظام لإحداث تغيير ما، يكسر رتابة الحياة تحت الحرب ويخفّف قليلًا سخط السوريين (المؤيدين والمعارضين) على طريقة إدارته للأمور.
والآن بعد عامٍ تقريبًا من «التطبيل والتزمير» لهذه الحملة، يحقّ للجميع أن يتساءل، هل عاش السوريون عام 2015 غير؟ وهل حقّقت «عيشها غير» أهدافها؟
حملة من مواطنين عاديين(!)
رغم اتساع الرقعة الجغرافية التي غطتها الحملة، واستخدام جميع أنواع الإعلانات ووسائل الإعلام العامة والخاصة لها، عرّف المشرفون حملتهم بأنها «مبادرة الوطنية» من مواطنين سوريين عاديين، هدفها «ضخ حالة من الحراك الاقتصادي الإيجابي بالبلد، بالإضافة للشق السلوكي المتعلق بتعميم سلوكيات تؤمن بالتغيير وعدم الاستسلام للتحديات»، ويضيفون أن الحملة لا تريد أيّ تبرعات أو مساعدات مالية من أي جهة أو مؤسسة، حسب لقاء نشرته صحيفة البناء اللبنانية والموالية للنظام السوري.
ورغم التأكيد على كون الحملة غير تابعة لجهة ما وأنها من المواطنين وإليهم، إلا أن حجم الترويج الإعلامي لها و»الصلاحيات» المعطاة لمنظميها، بالإضافة للإشارة للنظام في كلّ شاردة وورادة من حملاتها، تشير إلى وقوف الأخير خلفها لتلميع صورته، الأمر الواضح «باستجابة» وزاراته والمؤسسات التابعة له واحدة تلو الأخرى لهذه الحملة التطوعية.
يؤكّد لنا محمد من حمص ذلك بقوله «إن كنت ترغب بفتح براكية صغيرة في حارتك لبيع العلكة لا بدّ من أخذ تراخيص من الفروع الأمنية، فكيف بفتح بازارات كبيرة مع طنة إعلامية مثل بازار صنع في سوريا؟».
ما بين البرومو والواقع
في أحد البروموهات التي عرضتها الحملة على التلفزيون السوري الرسمي، يظهر في أحد المشاهد شابّ جريح يتلوّى في منطقة يبدو أنها تشهد اشتباكات وحرائق، يهبّ رجل بسرعة من بين الدخان والشظايا ليحمل الشاب ويسعفه إلى المشفى المجهّزة بكامل الوسائل، فيدخل المصاب فورًا إلى غرفة العمليات دون سؤال أو استجواب، بخطوة تشير إليها الحملة بالقول «هيك كنا وهيك لازم نبقى».
لكن هل يسمح النظام لأيّ كان أن يسعف أيًا كان؟ تجيب المهندسة رنا عن هذا بإشارة لحالة زوجها، الذي بقي ساعة كاملة مغمى عليه على رصيف أحد شوارع دمشق دون أن يعينه أحد، وتضيف «تلقّى زوجي مكالمة هاتفية سمع فيها نبأ استشهاد أخيه المعتقل، لم يتحمل الخبر فأصيب بنوبة قلبية مباشرة -رغم أنه لا يعاني من مرض القلب سابقًا-، وعوضًا عن إسعافه كبّل الخوف كل من رآه من استجواب في المشفى فبقي بحالة سيئة ساعة كاملة ملقى على الرصيف إلى أن أتى ابن حلال وأسعفه».
ترى رنا أن تمسّك زوجها بالحياة جعله يحظى بها، وتضيف «في كثير من الأحيان ألوم الناس وأسخط، فمرض القلب سيرافق زوجي من الآن -رغم شبابه- وطيلة حياته، فتبعات التأخر بإسعافه تتجلى بآثار صحية كثيرة في جسده، لكنني أعود وأقول.. معهم حقّ!، عندما زرته في المشفى تفاجأت بأنه أقرب للثكنة العسكرية لكثرة المجندين والضباط فيه، من يرغب بإسعاف شخص لا يدري ما أصابه إلى مكان كهذا؟”.
عيشها غير مع الاتصالات
بادرت وزارة الاتصالات، كغيرها من الوزارات، إلى تلبية نداء هذه الحملة “العفوية”، فأصدرت العديد من التخفيضات والعروض للمواطنين مع بداية الشهر الثاني من العام الجاري، كإعلان عن رفع مجاني لسرعة الإنترنت لمشتركي الـ adsl في مزودات خدمة الإنترنت الحكومية، لكنّ قصّة سها من دمشق تؤكد خلاف ذلك، إذ اتجهت فور سماعها بالخبر إلى مركز الهاتف، وبعد روتين وبيروقراطية المراحل في المؤسسة وطلبات من قبيل الطوابع وصور الهوية، والتي لم تُذكر في الإعلان على الإنترنت، دخلت غرفة الموظفة المعنيّة بطلبها، تكمل سها «وجدت عددًا من الشبان يطلبون منها رفع سرعة الإنترنت حسب الإعلان الذي قرأوه مثلي، لكنها أخبرتنا بأن القرار لم يصلهم من الوزارة وأنها غير مخوّلة لفعل أي شيء، وإن كنا نريد رفع سرعة الإنترنت فيجب علينا دفع الفارق».
وتؤكد التعليقات على موقع الفيسبوك قصة سها، إذ يقول طاهر فانسا تعليقًا على الموضوع «يظهر الموضوع طلع باليابان مو عنا، لأني راجعت مقسم شارع بغداد لأرفع سرعة البوابة قال ما عندهم علم بالقصة وما اجاهم شي رسمي”، ويشاركه الملاحظة ذاتها عدة أشخاص، بينما قالت رهف حسام «مو ليكون فيه إنترنت، يجيبوا الإنترنت بالأول بعدين يحكو عن السرعة».
ليس هذا فحسب، فسرعان ما أصدرت وزارة الاتصالات قرارًا برفع أسعار الاتصالات الخلوية في منتصف شهر آذار، لتثير بذلك زوبعة من ردود الأفعال والانتقادات عبر مواقع التواصل الاجتماعي ومنها صفحة حملة عيشها غير، فمثلا يقول علي محمد «على شو غليتو الاتصالات برحمة أبوكن، على الخدمة السيئة ولا التغطية الضعيفة، فعلًا عم تعيشوها غير”.
عيشها غير في المقاهي والفنادق
يبدو أن حلول النظام لـ»الأزمة» تشبه تفكير ماري أنطوانيت بتقديم الحلوى بدل الخبز، إذ قدّمت وزارة السياحة عروضًا سخيّة للمواطنين، بإقامات مجانية (مشروطة) للحفلات والأعراس والمعارض في فنادق وزارة السياحة، لتستجيب لحملتها العديد من المقاهي والمطاعم وتصدر عروض التنزيلات مرفقة بعبارة «عيشها غير».
مطاعم في أبو رمانة، والمزة بدمشق، وأحياء الحضارة والزهراء بحمص، شاركت بتخفيضات على الفاتورة خلال أيام معينة في الشهر، يشمل أحد العروض تخفيضات بنسبة 25% لكل ما يزيد عن 2000 ليرة من الفاتورة، فمثلًا يقول معروف أبو الشامات صاحب مطعم توليدو في برومو منشور ضمن الحملة «دخلنا في هذه الحملة ليتمكن المواطن يلي ما بيحسن يفوت على المطاعم من دخولها، لتستطيع مختلف الشرائح تناول طعامها في المطعم» لتصور بعدها الكاميرات «أصحاب الدخل المحدود» يرتادون المطعم ويشكرون الحملة، كما تقول إحداهن «طبعًا لازم المواطن يرفه عن نفسه، وصعب أنو المواطن يلي دخلو محدود يرتاد المطعم كل يوم فهيك صار عندو فرصة أكبر»، وهكذا تستمر الحملة بعروض منفصلة انفصالًا تامّا عن هموم الشارع وتشرده، بعيدًا عمّن يفترشون أرصفة دمشق ويأكلون من قمامة مترفيها، تركّز الكاميرات على الطبقة المخملية التي لم -ولن- تعيش الحرب، لتشعر الناس أن الدنيا لا زالت بخير.
عيشها غير في المدارس الخاصة
وبترسيخ الاهتمام والتركيز على الطبقة المخملية في المجتمع، أعلنت وزارة التعليم والتربية عن دخولها مضمار عيشها غير، لتعلن عن إعفاء الطلاب الأوائل في المدارس الخاصة من القسط السنوي للعام الدراسي اللاحق، ورغم الانتقادات الواسعة، كون عروض الحملة للطلاب أبناء الطبقة الغنية، إلا أن بعض التعليقات أتت لتبيّن أن العروض كانت وهمية أصلًا، وحبرًا على ورق لا أكثر، كما عبّرت آندرة العوايدة، والدة طفلين من الأوائل في مدرسة المحبة المذكورة ضمن الإعلان، فتقول «طفليّ بهاء ومايا أوائل في مدرستهم وعند مراجعتي للإدارة للاستفادة من إعلان وزراة التعليم أخبروني بعدم وجود أي قرار بالإعفاء من الوزارة”، وتضيف أن مسؤولية الوزارة الأولى هي الحفاظ على المصداقية «خاصة أمام الأطفال الذين علموا بالقرار».
لا يمكن إنكار سعادة الناس في البداية وتفاؤلهم بالأفضل، فإعلام النظام يجيد اللعب على العواطف، وما الذي يثير الناس أكثر من رؤية مشاهد تذكرهم بأيام قد خلت وبأن الخير فيهم باق، وهو الأمر الواضح في تعليقاتهم وردود أفعالهم ومشاركاتهم لبرومو الحملة بكثرة في شهر كانون الثاني، لكن الأيام أثبتت أن الأمر كان مجرّد تخدير بموسيقى أوبرالية وطنية، وكلمات طنانة، ووعود وعروض وهمية، بضائع قاربت على انتهاء صلاحياتها أُخرجت من المخازن ووضعت على رفوف المؤسسات الاستهلاكية، لتتوقف الحملة عن النشر والعروض قبل أن ينتصف عام 2015، ويبدأ النظام حملته الفعلية برفع أسعار الدواء والخبز وأسطوانات الغاز والمحروقات والكهرباء، ويبرهن بطريقته أن حياة السوريين تحت ظله «غير».. فعلًا غير.