نبيل محمد
ليس جديدًا أن يهرب أي فنان سوري مقيم في سوريا في أي حوار معه إلى الماضي، يجنّبه ذلك الحديث عن الراهن، يجنبه الاصطدام مع تناقضات سوف يقع بها لا شك، عندما يهاجم الراهن المحلي وعذابات المواطنين اليومية ويمجّد القيادة. لكن هذا التناقض لم يكن يومًا ليشغل بال دريد لحّام، يمكنه أن يغوص فيه مستمتعًا بمياهه المستنقعية يوميًا، خاصة أنه كثير الحضور، غزير اللقاءات، متدفق التصريحات، لكنه رغم ذلك، لن يجد أفضل من البكائيات على نهر “بردى” لتأخذ حيّزًا واسعًا من حوار أجري معه مؤخرًا على إذاعة “شام إف إم”، حوار أفردت له الإذاعة محاور ليس مطلوبًا منها سوى مجاملة الفنان، والارتباك والانبهار من ردود فعله وأجوبته المكررة والمتوقعة، حوار لا يخلو من أعطال فنية قد تكون وليدة انقطاع كهربائي أو اهتراء بطارية ما تحت الظروف القاهرة الراهنة، التي ليس مصدرها تلوث نهر “بردى” بالتأكيد.
يشعر دريد لحّام أن الله غاضب علينا عندما يمشي في دمشق، والسبب بذلك نهر “بردى”. هذا سبب الغضب الإلهي على بلد مثل سوريا، لا يمر فيه دريد لحّام من أمام فرن خبز أو مركز توزيع غاز، ولا يجد نفسه مجبرًا على استخدام “بطاقة ذكية”، أما ذلك الجحيم المتمثّل بدمار المدن والمقابر الجماعية والسجون، فهو أصلًا مشهد أغمض عنه لحّام عينيه منذ سنين، وسيكون المشهد الذي يحزنه في هذه البلاد، هو نهر “بردى” الملوث، والذي تجرأ عليه “أولاد الحرام” بحفر الآبار غير الشرعية قرب منبعه.
ما ليس بحاجة للهروب إلى الماضي في حديث لحّام، هم الفنانون المعارضون الذين انتقوا ترك بلادهم والعيش في “فنادق خمس نجوم لن تقيهم أسرّتها الذهبية من الأحلام المزعجة”، حيث اختاروا التخلي عن كونهم “أشجارًا” ستتعرض لليباس عندما غادرت جذورها، بينما الباقون، أي دريد لحّام وكل من لم يغادر سوريا، فهم “التين والزيتون” في هذه البلاد حسب قوله، وإن من انتقده على موقفه “الوطني لا السياسي” هم ليسوا قليلي وفاء له، وإنما “قليلو وفاء لوطنهم”. هنا فقط يجد لحّام أهمية مواكبة الحاضر، وعدم اللجوء إلى استهلاك ما استهلكه سابقًا أصلًا من ماضٍ وتاريخ.
التعرض للقضية السياسية ووضع البلد، لم يأتِ على لسان لحّام إلا من بوابة ذاتية، أي من الحديث عمّن انتقدوا موقفه “الوطني”، ولعل أولئك المعارضين لو لم ينتقدوا موقف لحّام، لما كان لهم مكان أصلًا من الحديث. تتعملق ذات الفنان بين لقاء وآخر، ويبدأ بإعطاء نفسه صفات يضخّمها ويشذّب أطرافها ويروي عنها تفاصيل ليس بالإمكان التأكد من صدقيتها. يصّر على كونه كاتبًا قبل أن يكون ممثلًا، فإن تذكّر تفاصيل من حياته الأسرية، يتذكر أنه جالس يكتب وزوجته تصنع السجاد بجانبه. أما الأخلاق فهو المكافئ الإنساني لها في كل تصنيفاتها القيمية، هو شجرة لم تغادر وطنها، متسامح يحزن على أولئك الذين باعوا نفسهم للشيطان، لا تهمه القيم المادية، فقد طلب من أحد المنتجين في عقد السبعينيات أن يخصم من أجرته لأنه وجد المبلغ الذي سيأخذه ضخمًا. أيّ ملاك أنت يا غوار، وفوق كل هذا سترفض الإقامة الذهبية لو عُرضت عليك، لأنك مقيم هنا في وطنك.
أيام قليلة بعد هذا الحوار، ارتدى الفنان العتيق وسام الاستحقاق الذي سبق ومنحه إياه الأسد، ودخل معتزًّا به ليستمع إلى خطاب القسم، الخطاب الذي امتلأت قاعته بالممثلين بشكل لافت، فنانون صفقوا خلال السنوات الماضية أكثر مما مثّلوا، مفاصلهم التي لم تعد تقوى على حملهم كانت جاهزة للانتصاب أمام أولياء النعم الذين وعدوا بمواسم جديدة من الخراب الذي يستمتع به دريد لحّام وأمثاله.