عنب بلدي – علي درويش
ما إن أقصت “هيئة تحرير الشام” الفصائل العسكرية الكبرى في محافظة إدلب وريف حلب الغربي عن واجهة السيطرة والنفوذ التام، كـ”حركة أحرار الشام” و”حركة نور الدين زنكي”، حتى التفتت إلى المجموعات “الجهادية”، وخاصة التي يغلب المقاتلون الأجانب على تشكيلتها العسكرية.
وبسطت “تحرير الشام” منذ عام 2018 سيطرتها التامة على محافظة إدلب وجزء من ريف حلب الغربي وجبال الساحل وسهل الغاب شمال غربي حماة، وتعتبر المتحكم الرئيس في هذه المناطق على الرغم من وجود “الجبهة الوطنية للتحرير” وانضوائها إلى جانب “جيش العزة” في غرفة عمليات “الفتح المبين”.
ولم تستثنِ “تحرير الشام” الجماعات “الجهادية” التي كانت فيما سبق عونًا لها منذ تأسيسها في سوريا تحت اسم “جبهة النصرة لأهل الشام”، وتحولها لاحقًا إلى “جبهة فتح الشام” عام 2016، لتندمج بعد ذلك مع فصائل أخرى تحت اسم “هيئة تحرير الشام”.
وتصدّرت قضية “جنود الشام”، تحت قيادة “مسلم الشيشاني”، السجال بين أنصار “تحرير الشام” ومعارضيها ممن يؤيدون الجماعات “الجهادية”، بعد طلب “تحرير الشام” من “الشيشاني” حلّ فصيله ومغادرة سوريا أو الانضواء تحت راية “الهيئة”.
قضية “جنود الشام” سبقها العديد من الأحداث المشابهة، سعت من خلالها “تحرير الشام” إلى إقصاء المجموعات “الجهادية” مقابل تبييض صورتها أمام الغرب، بحسب ما يراه معارضوها.
ما قضية “جنود الشام”؟
تسعى “تحرير الشام” إلى إنهاء وجود فصيل “جنود الشام” الذي يتكوّن من مقاتلين قادمين من الشيشان، وهو ما ظهر إلى العلن نهاية حزيران الماضي، وما زال يتفاعل حتى اليوم، حين طلبت “الهيئة” من الفصيل الانضمام إليها أو مغادرة إدلب.
وفي 16 من تموز الحالي، تحدث قائد “جنود الشام”، “مسلم أبو وليد الشيشاني”، في تسجيل صوتي عن مداهمة “هيئة تحرير الشام” مقرات عسكرية في جبل التركمان بحثًا عنه، بعد أن منحته “الهيئة” أسبوعًا لمغادرة الأراضي السورية، معتبرًا المهلة غير كافية لتحضير نفسه وفصيله للمغادرة.
وقال “الشيشاني”، إن جميع المقاتلين الشيشانيين يعتزمون مغادرة الأراضي السورية برفقة قائدهم.
ويُعرَف عن قائد فصيل “جنود الشام”، مراد مارغوشفيلي الملقب بـ”مسلم أبو وليد الشيشاني”، أنه شيشاني الأصل وينحدر من القبائل الشيشانية التي تعيش في جورجيا.
وهو مصنف من قبل وزارة الخارجية الأمريكية على أنه قائد جماعة إرهابية مسلحة في سوريا منذ أيلول 2014، إذ اتهمته الوزارة ببناء قاعدة للمقاتلين الأجانب في سوريا.
تفكيك الفصائل “الجهادية”.. طموح “الهيئة” لتحقيق أهدافها
الأستاذ الجامعي والباحث في الجماعات الإسلامية عبد الرحمن الحاج، يرى أن تفكيك التنظيمات المصنفة “إرهابية” يصب ضمن إطار “مكافحة التنظيمات الإرهابية وفق الاتفاقات الدولية”.
ويجب النظر إلى تفكيك هذه الجماعات من زاوية تأثير تفكيكها على تلبية طموحات “هيئة تحرير الشام” بالتخلص من تصنيفها على قوائم “الإرهاب”، و”التعاطي معها على أنها منظمة محلية وطنية يمكن أن تكون أحد الوكلاء المحليين الذين يمكن استخدامهم لضبط الأمن”، حسب حديث الدكتور عبد الرحمن الحاج إلى عنب بلدي.
وعلى الرغم من أن فصيل “جنود الشام” لا يشكّل تحديًا لـ”تحرير الشام”، يشكّل وجود مقاتلين أجانب وخاصة الروس (بمعنى أن قضيتهم الرئيسة مواجهة روسيا)، ضغطًا دائمًا على الأتراك، أصحاب النفوذ في مناطق سيطرة المعارضة، و”تحرير الشام”، إذ يعطي وجود مجموعات “إرهابية” في المنطقة مبررات لروسيا من أجل القصف.
واعتبر عبد الرحمن الحاج أن تفكيك “جنود الشام” يأتي في عدة سياقات، منها أن القضية “جزء من نزع المبررات الروسية على الرغم من عدم تشكيلها أي ضرر”.
إضافة إلى سياق محلي خاص بإعادة تمركز “تحرير الشام” نفسها في إدلب، و”في إطار العلاقات الدولية أو في إطار المنظور الدولي بموضوع الإرهاب، ومنظور (الهيئة) لنفسها في دور محتمل تسعى إليه في المنطقة”.
ولا يعتبر فصيل “جنود الشام” من الفصائل المعروفة في الشمال السوري، إذ يقتصر التشكيل على مئات المقاتلين المنتشرين على جبهات القتال في مناطق الساحل السوري، ويشكّل المقاتلون الأجانب أغلبية عناصره.
شُكّل التنظيم في سوريا عام 2013 على أيدي مقاتلين أجانب أغلبيتهم شيشانيون، في الشمال السوري، ومع قدوم “أبو مسلم الشيشاني” إلى سوريا في تلك الفترة، تزعم التنظيم بسبب خبرته العسكرية التي اكتسبها خلال الحربين الشيشانيتين الأولى والثانية ضد الجيش الروسي، ما جعله مؤهلًا لقيادة الفصيل.
ومع الخلافات التي دارت بين فصائل المعارضة وتنظيم “الدولة الإسلامية” مطلع عام 2014، أعلن “أبو مسلم الشيشاني” عن مبايعته لتنظيم “الدولة” منفردًا بينما تولى “مسلم أبو وليد الشيشاني” قيادة التنظيم، ليستقر بعدها على جبهات الساحل السوري بسبب خبرته الكبيرة بالتخطيط للمعارك في المناطق الجبلية الوعرة، بتشكيل قوامه حوالي 300 مقاتل. وينطوي عناصر التنظيم على أنفسهم لأن أغلبيتهم العظمى لا تتحدث اللغة العربية، ويقتصر التواصل فيما بينهم على اللغة الشيشانية، ما جعل من احتكاكهم بالمجتمع السوري أمرًا صعبًا، بحسب معلومات متقاطعة لعنب بلدي من قادة في المعارضة. ومع بداية عام 2016، بدأ الضعف يخيّم على الفصيل مع انضمام الكثير من عناصره لتنظيم “الدولة”، على إثر تفاقم الخلافات بين فصائل المعارضة وتنظيم “الدولة”، وبين فصائل المعارضة نفسها. |
حلقة من سلسلة طويلة
وجاء تفكيك “جنود الشام” ضمن سلسلة طويلة من استهداف المقاتلين الأجانب من قبل “تحرير الشام”، إذ كان الأجانب يشكّلون تحديًا لـ”تحرير الشام” ويؤدون إلى ضغط على المنطقة، باعتبار أن هناك تنظيمات منافسة تنتمي لـ”القاعدة”، الرحم الذي خرجت منه “تحرير الشام”، ما يدفع للتخلص من خطر محتمل.
وبحسب عبد الرحمن الحاج، “كل الظروف تقتضي التخلص من المقاتلين الأجانب، الذي يعتبر التحدي الرئيس، ونجحت (تحرير الشام) فيه عمومًا، وبالتأكيد ستستمر في تفكيك المجموعات الأخرى”.
وقال الحاج، إن “مسار (تحرير الشام) مستمر وواضح جدًا”، وهي تفعل كل ما تعتقد أنه يجب أن تقوم به كي تكون مقبولة في المجتمع الدولي، و”هي في الحقيقة على شفا قبول”.
والشيء المهم الآن، أن هذه العملية سلسلة متوالية لإنهاء أي وجود للمقاتلين الأجانب، ومن الآن فصاعدًا لن تسمح “تحرير الشام” بوجود أي منظمة مصنفة “إرهابيًا” حتى لا تكون عبئًا عليها.
وعليه، من المتوقع خلال فترة قريبة أن يغيب أي وجود لمقاتلين أجانب على الأراضي السورية، مع وجود استثناءات محتملة على صعيد الأفراد، وليس على مستوى التنظيمات.
ومن هذه الاستثناءات التركستان (المنضوون حاليًا تحت راية الحزب الإسلامي التركستاني)، لأن لديهم وضع مختلف، خاصة أن الفرع السوري رُفع من موقعه كتنظيم “إرهابي”، وله علاقة بأطراف إقليمية.
واستطاعت “الهيئة” إحداث تغييرات كبيرة على مستوى علاقاتها ودورها وخطابها، والآن هي “الجماعة الوحيدة المنظمة التي تمتلك قوة أمنية ومركزية وانضباطًا”، بحسب الدكتور عبد الرحمن الحاج، وبنفس الوقت تخلت عن أيديولوجيا “السلفية الجهادية”، وأدت أدوارًا في إخراج التنظيمات “الجهادية” الأخرى المصنفة على قوائم “الإرهاب”.
ما يعني أن كل التنظيمات “الجهادية” المتبقية (التنظيمات السلفية الجهادية) التي لم تحدث أي تغيير في أيديولوجيتها، أو التي لا يزال لديها مقاتلون أجانب، “ستتعرض للإنهاء، ومن بينها (حراس الدين) الذي أوشك على النهاية، لتخلو المنطقة بالتدريج من المقاتلين الأجانب”.
وتتهم الجماعات “الجهادية”، وعلى رأسها “حراس الدين” (فرع القاعدة في سوريا)، فصيل “تحرير الشام” بخضوعه وتطبيقه للاتفاقات الدولية وعلى رأسها محادثات “أستانة” بين الدول الضامنة الثلاث (روسيا وتركيا وإيران).
ووسعت “تحرير الشام” منذ النصف الأول من العام الماضي تضييقها على الجماعات “الجهادية”، ولاحقت من انشق عنها وأسس فصائل مستقلة، كالقيادي السابق في صفوفها (أمير قطاع القلمون وريف دمشق) “أبو مالك التلي”.
كما لاحقت قيادات مطلوبة على المستوى الدولي وخاصة من قبل الروس، كـ”أبو صلاح الأوزبكي”، إذ اعتقلتهم وأفرجت عنهم في وقت لاحق من العام الماضي، وتراجع بعدها حضورهم على الساحة.
وجرت اشتباكات بين “تحرير الشام” وغرفة عمليات “فاثبتوا”، التي كانت تضم أبرز الفصائل “الجهادية” وعلى رأسها “حراس الدين” في حزيران 2020، انتهت بتوقيع اتفاق نص على منع نشر أي حواجز أو شن أي عمل عسكري ضد قوات النظام إلا بعد التنسيق مع غرفة عمليات “الفتح المبين” (التي تضم تحرير الشام وفصائل معتدلة أخرى).