حنين النقري – عمر عبد الرحيم
سبقت العديد من المدن ومراكز المحافظات حماة إلى معارك التحرير، ورغم أن الأخيرة تميّزت في مطالع الثورة بمظاهراتها المليونية وحناجر مطربيها الصدّاحة بالحرية، إلا أن طول أمد الثورة وإحكام النظام قبضته الأمنية عليها أخمدا أيّ مظهر من مظاهر التمرد فيها، فأصبحت قبلة للنازحين من شتى محافظات الشمال المحررة، لتغصّ بما يزيد عن 2.5 مليون إنسان يبتغون الاستقرار فحسب، وإن كان ذلك على قمة بركان مهدد بالانفجار.
خاضعة وادعة تعيش حماة إذن، بعيدًا عن صواريخ نظام الأسد وبراميل حقده، مع الكثير من الفساد والتشبيح على الأرض يراقبها أهلها بغضب وصمت، خشية أن ينالهم من الابن ما نالهم من الأب، فكيف تعيش حماة اليوم؟ وما هي آراء الشارع الحموي إثر إطلاق جيش الفتح بيان بدء معركة تحرير حماة في منتصف تشرين الأول الجاري؟
مفاجأة من جيش التحرير
وسط المعارك الضارية التي يشهدها ريف حماة الشمالي، وصولًا إلى سهل الغاب وريف اللاذقية، والأخبار الواردة عن عمل مرتقب للقوات الإيرانية في منطقة حلب، والغزو الروسي الذي بدا مسيطرًا على سماء سوريا، فجر جيش الفتح مفاجأة من النوع الثقيل بإعلان بدء معركة «غزوة حماة» رسميًا، بهدف السيطرة على المدينة وفتح الطريق إلى حمص، والتي عدّها المرحلة الثانية من «مراحل جيش الفتح لتحرير بلاد الشام»، كما ورد في البيان الصادر عنه يوم الثلاثاء 13 تشرين أول الجاري.
آراء مؤيدي التحرير:
عن الفساد الذي عمّ
يعيش الناس في حماة اليوم انقسامًا واضحًا بين مؤيد ومعارض وناقد، فأبو محمود الحموي، من سكان المدينة وناشطيها المدنيين وأحد مؤيدي التحرير مهما كان الثمن، يرى أن «الفساد والفلتان الأخلاقي بلغا حالة يستحيل السكوت عنها والتأقلم معها». ويوضّح «الشبيحة في كل مكان، وطالما ليس لنا قدرة كمدنيين على صدّ تشبيحهم المستمر فهم يتضخمون، كل شيء مستباح في حماة وعمليات الخطف أكبر دليل على الحجم الذي بلغه عناصر الأمن والحواجز، لذا أرى أن التحرير أولوية اليوم».
«الأمان الذي يزمّر له أبواق النظام وهميّ، فكم من الحالات التي وقفت فيها سيارات مفيمة من دون لوحة أمام الصيّاغ والتجار الكبار، ليدّعي راكبها أنه من فرع أمني ويخطف الشباب مطالبًا أهلهم بفدية بعشرات الملايين»، يضيف أبو محمود، «هل الأمان هو عدم وجود براميل في السماء وطيران يقصف؟ وهل ما نعيشه اليوم من تشبيح وانتشار للفساد والخطف والفلتان والاستباحة على كافة الصعد أمان؟».
ويدلّل أبو محمود على ذلك بالعديد من الأمثلة عن حالات تحرّش عناصر أمن بالفتيات جرت أمامه دون أن يملك من أمره شيئًا إلا الحسرة وابتلاع المهانة، ويعقب «عندما أرى الفتيات يتعرّضن لكلام الشبيحة وتحرشهم، أو أشاهد إحداهنّ تذعن بإعطاء رقمها لعنصر وضيع، أحتقن ألمًا دون أن أتمكن من قول حرف، أتمنى أن أشهد يومًا تتطهر فيه حماة من هؤلاء، لم نعرف منهم إلا السرقة والنهب والفلتان والفساد».
يتقاسم الناشط الإعلامي حازم الحموي الرأي ذاته مع أبي محمود، فهو يرى أن عملًا عسكريًا مثل هذا بات ضرورة في المدينة، ويقول « يكفينا ذل، يكفينا تشبيح، يكفينا تهجير للشباب بسببه، كفى انتشارًا للانحلال الخلقي، كفى تشويهًا لأصل المدينة، نريد العيش بكرامة».
نريد معركة “مكتملة”
تلخص السيدة أم عبد الله، وهي مقيمة في المدينة، موقف من تعرفهم من الأهالي في حماة، «نحن مع معركة التحرير، والوضع لم يعد يحتمل أكثر من الضغط والذل والفساد، المعركة بطبيعة الحال مؤجلة وقادمة ولو بعد حين».
رغم هذا تخشى أم عبد الله تكرار ما جرى في معارك سابقة، من سوء تنسيق أو عدم دراسة الأمور كما يجب، وتضيف «لا نريد أن تبدأ المعركة بهدف سياسي لتتوقف في منتصفها، ونكون نحن الضحية، فمدينتنا كما يعلم الجميع ليست كإدلب، لا تملك حدودًا مع أي بلد آخر، فحتى النزوح منها عند الحاجة ليس بالسهل، كما أنها محاطة بمراكز عسكرية ضخمة من جبل زين العابدين إلى المطار العسكري إلى اللواء 47 وحتى قلعة حماة، التي لا يعلم أحد كم يدعمها النظام ويحصنها».
لا تنفي أم عبد الله الخوف من المستقبل في إدارة المدينة لاحقًا بعد التحرير، فهي كغيرها من مواطني المدينة شاهدة على سوء الإدارة ببعض المناطق المحررة، وهم جميعًا يفكرون بهذه التفاصيل، وتلخّص رأيها قائلة «شبابنا متحمسون، ونحن معهم، لكن من حق المدنيين على القادة العسكريين أصحاب القرار أن يدرسوا المعركة جيدًا من كل النواحي من أولها إلى نهايتها، وهذا ما عهدناه من جيش الفتح».
الإعلان عن معركة لتحرير حماة ليس الأول، فقد شهدت المحافظة عدّة محاولات سابقة للتحرير، ووصل بعضها إلى مراحل متقدمة في المعركة، أبرزها «معركة تحرير محافظة حماة» على يد المجلس العسكري بمساندة ثوار حماة في كانون الأول من عام 2012، ومعركة «بدر الشام الكبرى» بقيادة عدّة فصائل أبرزها الجبهة الإسلامية وجند الأقصى في تموز 2014، لكن جميع المحاولات فشلت وتوقفت لعدّة أسباب أبرزها عدم التنسيق واتباع سياسة الأرض المحروقة من قبل النظام.
آراء معارضي التحرير: إلى أين؟
عند التطرق للآراء المعارضة للتحرير، لن نذكر معارضة المستفيدين من وجود النظام كتجّار المحروقات والعملات والتجار الكبار المهيمنين على الأسواق بالاستفادة من علاقاتهم مع المسؤولين، فهؤلاء هم أوّل الهاربين عند بدء المعارك، وفق أهالي المدينة. لكن الحديث هنا عن المدنيين والبسطاء، ممن لا تقوم دائرة الحرب إلا عليهم، ولا تقطع إلا أرزاقهم كالحاجة أم العبد من سكان المدينة، إذ تعبّر عن خوفها الشديد مما يتناقله الناس عن التحرير بقولها «يا بنتي أنا لا أخاف من الجيش الحر، فهم أبناؤنا وأهلنا أراهم على الشاشات فأدعو لهم بالنصر، لكن الخوف من النظام والويلات التي سيصبها علينا، إلى أين نذهب من نيران المعارك والطيران عند التحرير؟ ملاذنا كان الريف الحمصي واليوم كما ترينه مشتعل بالجبهات، الله يجيرنا من القادم».
تشاطر بنان، وهي طالبة جامعية حموية، الحاجة أم العبد مخاوفها، وتضيف «حماة لا تمتلك حدودًا دولية تمكننا من الهرب، هل نتجه إلى حمص المدمرة، أم إلى الشام التي تفيض بمن فيها، وماذا عن آلاف النازحين بيننا؟ جميعنا في حماة نعلم أن التحرير سيأتي يومًا، لكن هذا لا ينفي خوفنا وقلقنا من ضرائبه».
تاجر يريد التحرير!
ورغم أن الأحاديث تكثر عن معارضي التحرير وفتح جبهات جديدة من فئة التجار والمستفيدين، إلا أن البعض منهم يريدونه وبشدّة، لكثرة الخسائر التي تلحق بهم وبأعمالهم يوميًا من النظام وشبيحته، فاستمرارهم بالعمل يعني رشاوى مستمرة وشبه يومية لعناصر الحواجز، والخضوع للكثير من الشروط الجائرة.
ومن بين هؤلاء التاجر (م. ن)، ويعمل على شراء حاويات بضائع من الصين ويستقبلها من ميناء طرطوس ليبيعها للسوق، إلى أن حصلت معه قصة يرويها كالتالي: «اتجهت إلى الميناء لاستقبال حاوية بضائع بقيمة 20 مليون دولار، ولأنني لن أسلم من الحواجز استأجرت سيارة ترفيق تصطحبني». (وسيارة الترفيق هي سيارة دوشكا يقودها عناصر من الأمن ويدفع لهم التجار مبلغًا ماليًا كبيرًا لمرافقتهم أثناء المرور على الحواجز بغية قضاء أشغالهم بسهولة).
يتابع التاجر «استلمت الحاوية بأوراق نظامية وتفصيل للمحتوى، لكن أحد الحواجز عند عودتي لحماة أوقفني وأجبر سائقي سيارة الترفيق على العودة إلى معلمهم بألفاظ نابية».
لم تجدِ محاولات (م. ن) والأوراق النظامية التي يحملها بالتفاهم مع الحاجز، وحولوه إلى فرع الجمارك، حيث تم التفاوض ودفع 10 ملايين ليرة سورية، يشرح لنا قائلًا «طبعًا إن لم أدفع سأحول لمحكمة اقتصادية بتهمة حيازة بضائع مشبوهة وخلافه، دفعت المبلغ فأين التجارة في كل هذا؟ نحاول العيش في هذا البلد بكل الوسائل لكنهم لم يتركوا لنا منفذًا إلا وسدّوه؛ نعم أريد التحرير لينتهي هذا النهب والتشبيح، مدينة حماة ليست أغلى من باقي المدن».
الفئة الثالثة: المعركة ليست أولوية
وما بين تأييد للتحرير ومعارضة له، تبرز فئة ثالثة بينهما وهم فئة المعارضة التي توصف بـ «الواعية» ومن بينهم الشاب أنس، جامعي من مدينة حماة، فهو يرى أن التحرير واجب لكن التوقيت غير مناسب له اليوم. ويشرح رأيه «ما أقصده أن حماة تحتاج التحرير، لكن هل يجب أن تولى الأولوية ونغض الطرف عن حلب ومعاركها الدائرة والمناطق التي يستعيدها النظام وداعش يوميًا؟».
ويضيف «ركّزوا على حلب فهي بين فكي كماشة النظام وداعش، لم يتبق سوى 3-4 كيلومترات وتحاصر حلب بشكل كامل، هناك ستخسرون ثورة وتحريرًا وفصائل وتجارب مدنية عمرها عامان، أضف إلى هذا أن للتحرير تكاليف باهظة اليوم لعلّ جبهة حلب أولى بها».
تسلسل أحداث الثورة في حماة
– انضمت مدينة حماة إلى الثورة الشعبية ضد نظام الأسد مطلع نيسان 2011، لتلحق بركب المدن المنتفضة، مستذكرة دماء 40 ألفًا من أبنائها قضوا على يد الأسد الأب في شباط 1982.
تطورت الأحداث في المدينة من مظاهرات «طيارة» إلى نصف مليونية غصت بها ساحة العاصي، ولا سيما بعد مجزرة أطفال الحرية، حزيران 2011، لتدخل بعدها في حالة فراغ أمني حتى اجتياحها من قبل قوات الأسد مطلع تموز من العام نفسه.
كحال سائر المدن السورية، ومع مطلع العام الذي يليه، ترافق الحراك السلمي في حماة مع عصيان مسلح شمل عدة أحياء، نذكر منها: مشاع الأربعين، طريق حلب، جنوب الملعب، باب قبلي، مشاع الطيار، الشيخ عنبر، القصور، الحميدية، الفراية، وغيرها.
ردت قوات الأسد بدورها باستخدام شتى الأساليب لإخماد الثورة في المدينة الداخلية، وسط سوريا، فنفذت تدميرًا كاملًا لمشاع الأربعين ووادي الجوز، تزامنًا مع مجازر كبيرة بحق المدنيين أبرزها في الأربعين وحي الفراية.
في أيار من عام 2013، دخلت قوات الأسد حي طريق حلب، آخر معاقل المعارضة المسلحة في المدينة، لتصبح حماة منذ ذلك الحين تحت سيطرة كاملة من قبل الميليشيات المتنوعة والفروع الأمنية، والوصاية الإيرانية على اعتبار أن التمركز الأكبر لمستشاريها هو اللواء 47 على أطراف المدينة.
كيف ينتظر الحمويون “التحرير”؟
وبين هذا وذاك، وبين إعلان وآخر، تعيش حماة حالة من الخوف والترقب تصفها أم العبد بقولها «تنظرين إلى الوجوه كلها تترقب، الحواجز في تشديد أمني شديد، والناس لا حديث لهم إلا التحرير وأخباره وآخر بياناته؛ جميع المنافذ إلى حماة مغلقة عدا منفذ واحد يتم الدخول منه، والخروج ممنوع منذ 4 أيام، الجو مشحون بشكل كبير».
بدوره يشير الشاب أنس إلى حملة اعتقالات واسعة تشنها قوات الأمن في أحياء حماة، ويوضّح «في الحيّ الذي أقطن فيه مثلًا اعتقل خلال الأسبوع الفائت ما يزيد عن 20 شابًا، طبعًا لا تهمة ولا تحقيق، مجرد تجميع للشباب في أفرع الأمن، الدوريات المشتركة منتشرة ليلًا لتصيّد أي شاب كان في سهرة عند أصحابه، في الفترات السابقة كان من الممكن أن تعود إلى بيتك عند الثانية عشرة ليلًا، أما الآن فالدوريات المشتركة من كافة الفروع الأمنية بانتظارك مع باص جاهز للاعتقال، هذا لوحده كاف لحالة شبيهة بمنع التجوال المسائي».
ويضيف أنس إن حالة «التظاهر بالمحبة» التي كانت موجودة بين الشباب الحموي وبين الأمن آخذة بالتلاشي اليوم، ويشرح مقصده «الشبيح يعلم مقدار كراهية الحموية له ويعلم تاريخ معارضتهم للنظام، وهم أيضًا يعلمون الحقد الدفين في قلبه عليهم لكن كلًا منا يتظاهر بالتبسم في وجه الآخر، اليوم يعلم عنصر الحاجز الذي أمر عليه أنني سأسلّمه لأول كتيبة تدخل، الأمر كفيل بأن يعتقلني دون تردد».
يرى ناشطو المعارضة أن المعركة هي الأصعب والأهم حتى الآن، لكنها غير مستحيلة، ويؤمنون أن المدينة ستعود إلى حضن أهلها الذين أصبحوا غرباء فيها، اليوم أو غدًا، معتبرين أن ذلك سيفرح أهالي آلاف الشهداء وعشرات آلاف المعتقلين والمظلومين.
«أحلى شيء بالتحرير أنه يرجعوا غيابنا ويوقف تهجير شبابنا، ونتخلص من الوجوه النتنة التي نتصبح ونتمسى بها كل يوم» تختم أم عبد الله، فهل تحقق أمنيتها؟