هل حقًا سيسقطُ نظامُ الأسد؟
محمد عادل شوك
الجواب بـ «نعم» على هذا السؤال غير مقنع لشريحة من متابعي الشأن السوري؛ فهم قد سمعوا منّا ذلك مرارًا وتكرارًا، ومنذ الأيام الأولى للثورة، وها هو الأسد ـ كما يرَوْن ـ ما زال في قصور الرئاسة في دمشق.
لقد قالوها لنا مرارًا:
إنّ الغرب ممثلًا بإسرائيل لن يتخلى عنه، فهو الحامي لمصالحه، والضامنُ لأمن إسرائيل؛ وقريبًا سيُعاد إنتاجُه، ولربما نرى ولده حافظ رئيسًا من بعده.
سيُكمل فترته في الرئاسة، وسيمدد له سبع سنوات أخرى، وسيعقُبها مددٌ أخرى؛ وهاقد كان له ذلك.
ستنتهي مدة مجلس الشعب، وستُجرى انتخابات عقب انتخابات في ظلّ وجوده.
لن يُطرد مندوبُه بشار الجعفري من الأمم المتحدة، وستظل المحافلُ الدولية معترفة بشرعيته.
سترون غدًا كيف ستُعيد الجامعة العربية المقعدَ له، ولن يتكرر مشهد جلوس معاذ الخطيب عليه في قمة الدوحة، وها قد رأيتم ذلك عيانًا في قمتي: الكويت، والقاهرة التاليتين لها.
ستتراجعُ الدول التي قلصت، أو طردت بعثاته الدبلوماسية عن قرارها، وسيستقبل دبلوماسيوه رسميًا في قاعات الشرف بدءًا من المطار، وليس انتهاءً في وزارة الخارجية.
لن تُكلل مساعي المعارضة بإصدار جوازات السفر؛ فالدول لن تتقبلها، ولربما يتعرض حاملها للملاحقة القانونية، فهم مازالوا يعترفون بشرعيته القانونية، ولن يسلبوه أيَّ مظهر من مظاهر السيادة.
هذه طائراته ما تزال تحطّ في مطارات الدول، قادمة من دمشق، رغم قرارات المقاطعة لها.
هذا وزيرُ خارجيته قد كان قبل أسبوعين في أروقة الأمم المتحدة، يُلقي كلمة الجمهورية العربية السورية في جمعيتها العامة.
وبعد: ماذا تريدون أن نسوق لكم مزيدًا من الأدلة، والوقائع التي تدحض مقولة «الأسدُ انتهى، وأصبح نظامُه من الماضي»؟.
إنّ خمسًا من السنين توشك أن تنقضي من عمر الثورة، ورأس الجليد في قاسيون ما يزال ظاهرًا، وحدّة التصريحات النازعة للشرعية عنه في تراجع ملحوظ، في مقابل تزايد حجم الدعم المقدم له من أصدقائه، وآخره استجابة روسيا لطلبه في التدخل والمؤازرة، في مقابل انفراط عقد أصدقاء الشعب السوري؛ الأمر الذي جعل هذه الشريحة في موقع أمكن من ذي قبل.
بيدَ أنّ ما فاتهم أنّ هذه السنوات الخمس قد أحدثت في المجتمع السوري نقلة نوعيّة؛ جعلتْ منه مجتمعًا آخر يختلف كليّة عمَّا كان عليه في سنة 2011، ولاسيما في المناطق الخارجة عن سيطرته.
وحتى لا يطول الحديث في سرد الأدلة على ذلك، سنكتفي بتسليط الضوء على جوانب من ثقافة المجتمع المدني، التي استجدت على حياة السوريين؛ لدرجة يرى فيها المتابعون استحالة أن يعودوا إلى النمط الذي كانوا عليه من قبل، وأنّ الأسدَ نفسَه، لو قُدِّرَ له أن يعود إلى تلك المناطق، لكان حاله كحال أهل الكهف عند توفيق الحكيم.
لقد رتّب السوريون أمورهم في تلك المناطق بأنماط جديدة من التفكير، المتأقلمة مع أبجديات هذه الثقافة؛ فلم يعُد النظام السياسي السائد هو الممسك بمفاصل المجتمع، لقد تداولت فصائل شتّى السيطرة على تلك المناطق، وبقي المجتمع غير متأثر بتلك التجاذبات، متدبرًا أموره من خلال منظومة من القيم، والمبادئ التي ارتضاها لنفسه، لم يكن النظام الشمولي على مدى خمسين عامًا يسمح بمجرد التفكير فيها.
لقد أمسك النظام خلال تلك الحقبة بمفاصل الحياة جميعها، فهو الذي يُطعِم ويسقي، ويُطبب ويعالج، ويمنع ويُعطي، ويُنيم ويُوقظ، ويُعلِّم ويُجهِّل، ويُفرِحُ ويُحرِن، ويُوسِّع ويُضيِّق، ويقبِضُ ويبسُط، ويزوِّج من يشاء إن منحه موافقة التجنيد، ويُميت من يشاء إذا استدعاه لمدة خمس دقائق ليشرب فيها فنجان القهوة في أحد فروع الأمن الثمانية عشر.
لقد ساد نمطٌ جديد من التدين غلب عليه المنهج السلفي بدرجاته المتباينة، فلم يعد التيار الصوفي والمشيخي الموالي للسلطة مقبولًا بأي حال في المجتمع؛ الأمر الذي أفقد النظام ركيزة أساسية كان يتكئ عليها في ترويض نفوس السوريين.
وانكسر جدارُ الخوف الذي بناه على مدى تلك السنين، من خلال صنوف القهر والعذاب في المعتقلات والسجون، بمجازر قلّ مثيلها في أعتى الدول الأمنية سيطرة؛ فأصبح السوريون في بحبوحة من الحرية جعلتهم يخوضون في شتى المواضيع، دونما ترقّب مجيء سيارة البيجو في اليوم التالي، لتقلِّهم إلى حيثُ غيابة الجُبّ.
لقد أصبح حملُ السلاح واقتناؤه لدى السوري ضرورة، ورمزًا للعزة، وسادت ثقافة توازن الردع في المجتمع بطريقة غير مألوفة من قبل، لقد أصبحوا يتندرون في المجالس على رجال المخافر الذين كانوا بالكاد يغضون الطرف في الأعراس عن مسدسات الصوت التي كان يتمّ تهريبها من تركيا؛ فهاهم اليوم وفي أيديهم حتى الثقيل منه، ولم يعودوا يحارون في تهريبه، فهو يباع علانية في القرى والبلدات، لا بل إنهم يصنِّعونه.
وإنّك لتعجب أن ترى نِسَب الجريمة في هكذا مجتمع ضمن المقبول جدًّا، وهو ما أفقد نظام الأسد ورقة كان يتاجر بها كثيرًا أمام الوفود التي كانت تزور دمشق، بأن سوريا آمنُ بلد في المنطقة، لقد أدار السوريون ظهرهم لنظرية «الأمن مقابل الخوف»، وأثبتوا أنهم مدنيون، وحضاريون بحُكم جِبِلَتهم، وليس بالقمع والإذلال الذي كان يُمارس عليهم من أجهزة الأمن.
لقد تدبَّر السوريون رغيف خبزهم؛ فأصبح المواطن يُمسي غير قلق عليه، فما عاد همّ الاستيقاظ من الثالثة فجرًا يؤرقه ليحظى بربطة خبز تفضُل عن حاجة رجال المخابرات، فالأفران الخاصة والعامة عمت أرجاء المناطق المحررة، بعد أن كانت حكرًا على النظام.
لقد سعى النظام ليجعل من رغيف الخبز سلاحًا مُسلطًا عليهم عند الأزمات، من خلال قصفها بطائراته فيختلط الدم بالعجين أمام ناظري لجنة المراقبين العرب في حلفايا، وغيرها من المناطق في عموم المحافظات.
وقُلْ الأمرَ ذاتَه في الأمور المعيشية الأخرى؛ لدرجة أنّ من كان يتردد على مناطق سيطرة النظام يجِدُ في ربطة خبز، أو سلة خضراوات أحسن هدية يأخذها معه لمَن سيضيفه هناك.
وبالطبع فإن الحديث عن الصناعة النفطية، تكريرًا وتسويقًا، أصبح حديث السُّمَّار، ويتندر به السوريون في مجالسهم؛ فلم يعُد ذلك من المحرمات عليهم، ولم يبقَ حكرًا على الأيادي الأمينة، التي نال أحد أعضاء مجلس الشعب نصيبه من التوبيخ لمّا تجرّأ بالسؤال عنها، لقد تجاوز المواطن زمنًا كانت فيه الموافقة على إقامة محطة بترول أمرًا مرهونًا بالوزير، فكيف به وقد أضحى يقيم مصافي للتكرير تعمل على الكهرباء بطاقة إنتاجية تقدر بألف برميل يوميًا.
نعم يدرك المتابعون أن الهمّ ما زال منحصرًا في رؤية اللحظة التي تنزع فيها الشرعية الرسمية عن نظام الأسد، بعد أن نُزِعت عنه الشرعية الثورية.
ولكن الأمر له حساباته بين الدول صاحبة النفوذ في هذا الملف، ولا سيما أن العاصمة دمشق ما تزال تحت قبضته، وهم يضعون دون دخولها العديد من الخطوط الحمراء أمام الفصائل الثورية المحيطة بها، وهو ما أُبلغ به الشيخ زهران علوش في أكثر من مناسبة.
وفي رأي هؤلاء المتابعين أن ما يجري على الساحة السورية من التغيير، الذي أسلفنا الحديث عنه، هو عينُ الثورة، فالثورة تغيير لثقافة المجتمع، ونمط حياته، ووجوهه، وأشخاصه، وليس الجانب العسكري فيها سوى تسريع لذلك، وحماية للمكتسبات التي تتحقق في أثنائها.
وهذا ما كان لبني إسرائيل الذين كُتِب عليهم التيه أربعين سنة بعد خروجهم من مصر؛ من أجل أن يتهيؤوا لقيام دولتهم بعد قرون عاشوها في ظلّ فرعون، فمات جيلان منهم، ومات نبيا الله (موسى، وهارون) عليهما السلام فيه، وجاء بعدهما تلميذهما يوشع بن نون ليكمل المسيرة ويدخل بهم الأرض المقدسة.
وهذا ما كان من رسول الله محمد (ص)، الذي شرع في الإعداد لإسقاط هيمنة قريش الرسمية على مكة مدة ثماني سنوات بعد هجرته إلى المدينة.
وقد كان على مدى ثلاث عشرة سنة عاشها في مكة، يطوف بالبيت والأصنام تحيط به، ويسعى بين الصفا والمرة، وصنما إساف ونائلة على قمتيهما.
ألم يكن صلى الله عليه وسلم قد أسقط شرعية قريش الدينية، والثورية (نقولها تجاوزًا) لحظة نزول الوحي عليه في غار حراء، وبقي ينتظر من الوقت إحدى وعشرين سنة حتى تتهيّأ الظروف المناسبة لإسقاط شرعيتها الرسمية، آخذًا بالسُنن الكونية في تغيير المجتمعات.
إنّ إشغال النفوس بلحظة سقوط النظام، وترك الأخذ بالسُنن الكونية في تغيير المجتمع السوري؛ تمهيدًا للانتقال به من نمط نظام الأسد إلى نمط الثورة الشعبية الراهنة، لهو حرفٌ لعجلة الثورة عن مسارها، وتكليفٌ للناس فيما لم يُكلَّفوا به.
لقد أُمرنا بهزّ جذع النخلة؛ لتُساقِط علينا الرُّطبَ الجنيّ، بعد دبيب الحياة فيها؛ فهل أدركنا الحكمة في ذلك؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :