عنب بلدي – ديانا رحيمة
“نعم، أقبل الزواج من فلان على سنة الله ورسوله”، عادة ما تكون هذه الجملة بداية حياة سعيدة بين زوجين، ولكنها لم تكن كذلك لدى الفتاة القاصر عيدة الحمودي السعيدو من محافظة الحسكة، التي تزوجت من ابن عمها عنوة، ثم قُتلت بعد أن قرر أبوها وأخوها، وثلة ممن يقولون إنهم يدافعون عن شرف عائلتها، غسل شرفهم الذي لطخته عيدة بنظرهم عند هروبها من بيت زوجها والفرار مع شاب آخر لا يمت لها بصلة قرابة.
بعد عدة طلقات نارية وثّقها أحد ملاحقي عيدة بتسجيل مصوّر، وطلب خلاله من القاتل أن يصوّب على رأسها لتُقتل بسرعة، لفظت عيدة أنفاسها الأخيرة، ومشى القتلة في طريقهم.
قُتلت عيدة على يد 11 شخصًا، من بينهم أبوها وأخوها، بعد أن اقتادوها إلى منزل مهجور في مساكن حي الزهور المعروفة باسم “حوش الباعر” في ريف الحسكة.
وقال مصدر لوكالة “رووداو” الكردية، في 6 من تموز الحالي، إن عيدة قُتلت عقب هربها من بيت زوجها بعد انقضاء 20 يومًا على زفافها من ابن عمها، واتفاقها مع شاب وبمساعدة من والدته على الهرب معًا إلى إقليم كردستان، لتأتي عائلتها وتلقي القبض عليها بينما لاذ الشاب ووالدته بالفرار إلى تركيا.
الشرف ينحصر بالمرأة.. المجتمع صامت
لا يزال المجتمع السوري، وخاصة في البيئات التقليدية المحافظة ولا سيما “الريفية”، قائمًا على مفهوم “العيب” الذي ينحصر فيه الشرف كقيمة بوضع المرأة في الأسرة، وليس بالصدق أو الأمانة أو النجاح كقيم يُفترض أن تكون هي السائدة، بحسب ما قاله الباحث الاجتماعي طلال مصطفى لعنب بلدي.
ويرتبط مفهوم الشرف فيها بـ”الجنس”، أي بثقافة النظام الأبوي السلطوي، حيث لجميع الذكور الحق في تعيين نمط حياة نساء العائلة.
يكون الرجل هو المالك الحصري لجسد المرأة، حيث من حقه التحقيق بسلوكها والحكم عليه ثم التنفيذ، وعادة ما تُرتكب “جرائم الشرف” خوفًا من فقدان الوضع الاجتماعي وتشويه سمعة الأسرة التي يعتقد مرتكبو الجريمة أنها تسبب العار للعائلة.
ويصمت المحيط الاجتماعي عن جريمة قتل النساء التي تقع تحت مسمى “غسل الشرف”، لأن مرتكبها يكون من أفراد الأسرة (الأب، الأخ، ابن العم…) وهي أشد جرمًا من الجريمة بحد ذاتها، حيث يكون المجرم الشخص الذي يُفترض أن يكون مرتبطًا مع الضحية بعلاقات اجتماعية نفسية ودية ودافئة.
ولإنهاء شرعنة هذه الجرائم مجتمعيًا، حسب مصطفى، يجب إحداث تغيير جوهري في المفاهيم المجتمعية، حتى يحصل تقبل لرؤية مغايرة للمرأة تستند إلى مجتمع الحداثة والمواطنة من خلال كسر جدار الصمت القائم من قبل أفراد المجتمع على هذه الجرائم الوحشية التي لا تستند إلى قيم دينية أو أخلاقية، بل فقط إلى أوهام عفا عليها الزمن، والمبادرة إلى خلق ثقافة التغيير من خلال وصم مرتكب جرائم كهذه بصفة “عديم الشرف”.
عيدة ليست الأخيرة
تلت الجريمة التي اُرتكبت بحق عيدة جريمة أخرى، بداعي الحفاظ على شرف العائلة، حين قُتلت الطفلة آية خليفو، التي لم تتجاوز الـ16 عامًا، في 6 من تموز الحالي، خنقًا على يد والدها بعد حبسها لمدة عام ومنعها من مغادرة المنزل لتعرضها للاغتصاب من قبل ابن عمها، بحسب ما نقلته وكالة “نورث برس” المحلية.
وقُتلت آية بعد أن قضت المحكمة التابعة لحكومة النظام في الحسكة، بالحكم بالسجن لمدة 30 عامًا على ابن عمها المُدان باغتصابها، على اعتبار أن آية كانت سبب سجنه من وجهة نظر والدها، بحسب ما نقلته المصادر للوكالة.
وطالبت منظمات نسوية “قوى الأمن الداخلي” (أسايش) بمحاسبة القاتل وتسليمه للعدالة، إلا أن الأب يختبئ داخل المربع الأمني المسيطَر عليه من قبل قوات النظام في مدينة الحسكة.
اعترض سكان من مدينة الرقة على جرائم القتل التي اُرتكبت ضد الفتاتين في مدينة الحسكة، وتظاهروا في حشد انطلق أمام المستشفى “الوطني” وسط المدينة، وطالبت المظاهرات الجهات المعنية بمتابعة القضايا بحزم، ومعاقبة الجناة لمنع حصولها مجددًا في المستقبل.
جريمة الشرف.. قانونيًا
قالت وزارة العدل في حكومة النظام السوري، إنها تحرت عن الجناة وأصدرت مذكرات توقيف بحقهم، في 7 من تموز الحالي، لكنها أشارت إلى أن الجريمة حصلت في المنطقة التابعة لـ”الإدارة الذاتية”، بحسب ما نشرته عبر حسابها في “فيس بوك“، وبالتالي فإن مذكرات التوقيف هذه تعتبر شكلية، إذ لا تتمتع الوزارة بسلطة تنفيذية في هذه المناطق.
وقال وزير العدل، أحمد السيد، إن النيابة العامة باشرت بالتحقيقات، واستطاعت الوصول إلى نحو 22 شخصًا من الجناة المشاركين في الجريمة.
رئيس منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، قال لعنب بلدي، إن القوانين المطبقة في مناطق “الإدارة الذاتية” تعتبر “جريمة الشرف” فيها جريمة “متكاملة الأركان”، أي أنها جريمة جنائية وليست لها علاقة بالعذر المخفف أو ما شابه، فالمرتكب للجريمة يمكن أن يحاكَم بالسجن لمدة بين ثلاث و20 سنة، بينما يحاسَب الشريك بمدة تصل إلى تسع سنوات، فنظريًا وقانونيًا تعتبر هذه القوانين جيدة، إذ لا تعطي للمرتكب عذرًا لارتكاب الجريمة.
وتستند “الإدارة الذاتية” في قوانينها، بحسب الأحمد، إلى قوانين حكومة النظام السوري في قضايا “جرائم الشرف”، وتتعامل معها بشكل متطابق، ولا سيما بعد إقرار مجلس الشعب في سوريا إلغاء المادة “548” من قانون العقوبات لعام 1949، المعروفة باسم “العذر المخفف” لـ”جرائم الشرف”.
تطور تعاطي قانون العقوبات السوري مع هذا النوع من الجرائم
بقي قانون العقوبات السوري الذي صدر بالمرسوم التشريعي رقم “148” لعام 1949، يعفي القاتل من العقوبة في حال إقدامه على القتل، متذرعًا بـ“الدافع الشريف”، بمنحه عذرًا مُحلًا من هذه العقوبة.
وفي عام 2009، طرأ أول تغيير عليه، فصار القاتل بهذا الدافع يُحكَم مدة سنتين كحد أقصى.
واستمر كذلك إلى أن صدر المرسوم رقم “1” لعام 2011، الذي ألغى نص المادة “548” من قانون العقوبات السوري، التي كانت تنص على أنه “يستفيد من العذر المُحل من فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في جرم الزنا المشهود أو في صلات جنسية فحشاء مع شخص آخر، فأقدم على قتلهما أو إيذائهما أو على قتل أو إيذاء أحدهما بغير عمد، ويستفيد مرتكب القتل أو الأذى من العذر المخفف إذا فاجأ زوجه أو أحد أصوله أو فروعه أو أخته في حالة مريبة مع آخر”.
واستُبدلت بالمادة “548” السابق ذكرها، المادة “15” من المرسوم رقم “1” لعام 2011، التي ألغت استفادة القاتل من العذر المُحل من العقوبة، في حال ارتكابه جريمة القتل بالدافع الشريف، بينما لم تأتِ على ذكر “الحالة المريبة” التي كانت مبررًا لمنح العذر المخفف في القانون القديم، والتي كان الإبقاء عليها يعرّض كثيرًا من النساء لخطر القتل تحت ذريعة الدافع الشريف، بحجة “الحالة المريبة” في حال عدم القدرة على إثبات الزنا.
هل يطبَّق القانون؟
يرى الحقوقي بسام الأحمد أن الإطار القانوني مهم جدًا في تحقيق العدالة، ولكن العادات والتقاليد والموروث الديني والعشائري يلعب دورًا مهمًا في هذه الجرائم، ولحلها بشكل نهائي يجب أن يكون هنالك تقارب بين القوانين والموروث العشائري.
وعملت قوات “أسايش” على القبض على قاتلي عيدة، ولكن ذلك تعذر بحكم أن العشيرة بكاملها مسلحة وهددت بارتكاب مجزرة في حال أخذ الجناة، معتبرين القضية “جريمة شرف”، وأن ما فعلوه لا يخالف الأعراف العشائرية، بحسب بسام الأحمد.
لكن المتحدث الرسمي باسم “مجلس القبائل والعشائر السورية”، الشيخ مضر حماد الأسعد، (الذي يتخذ موقفًا مناهضًا للإدارة)، اعتبر أنه لا يوجد سكوت أمني على الذي حدث في المنطقة، ولكن المنطقة تفتقر إلى القانون، وعندما تحصل جرائم قتل ومشكلات بين العشائر، لا تتدخل “قوات سوريا الديمقراطية” (الذراع العسكرية للإدارة الذاتية)، بل تتدخل فقط في حال تجنيد الفتيات القاصرات في معسكرات التدريب.
ودعا “مجلس العشائر والقبائل السورية” إلى أن تسود الحلول القانونية لهذه المشكلات، وإلى إيجاد حل عن طريق “العرف العشائري”، وتوعية الأهل بالاهتمام برغبة الفتيات بالزواج والطلاق واستشارتهن وعدم إجبارهن على الزواج.
وحمّل مضر حماد الأسعد سلطة الأمر الواقع المسؤولية، بسبب غياب دعمها الخدمي خاصة بالتعليم والمدارس، الأمر الذي أدى إلى تفشي الجهل والفقر رغم أن منطقة الجزيرة والفرات تعتبر من أغنى المناطق بثرواتها الباطنية.
كما دعا شيوخ وقضاة العشائر كافة إلى أن يتدخلوا من أجل منع الذي حدث مجددًا، لأن هذا النوع من الجرائم يحكمه القانون، ولكن يبدو أن العصبية القبلية هي التي تحكمت بالقضية.
الجريمة في الشريعة الإسلامية
ترفض الشريعة الإسلامية القصاص الفردي، وتوجب إرجاع القضايا إلى القضاء المختص للنظر في التهمة من خلال محاكمة عادلة ومبنية على الأدلة الشرعية والقرائن المتفقة مع العقل والمنطق.
يعرف الباحث والكاتب الإسلامي السوري وعضو مجلس الشعب سابقًا، محمد حبش، “جرائم الشرف” بأنها “الجرائم الخاصة بالانتقام من الأنثى أو الرجل إذا اشتبه في مقارفتهما الفاحشة، فهو أمر مستهجن وغير مقبول لا لغويًا ولا شرعيًا، وهو استخدام مستحدث”، مؤكدًا أن المصطلح شاع استعماله “عبر الخطاب الصحفي، وليس عبر لغة الفقهاء”.
ويقول حبش في دراسته “جرائم الشرف بين الشريعة والقانون”، إن الإسلام جاء شديدًا في تحريم الزنا واعتباره جريمة أخلاقية واجتماعية، وخاصة “عندما يتضمن خيانة زوجية، وذلك حرصًا من الشريعة الغراء على استقرار الأسرة”.
والعقوبات الشرعية المقررة على جريمة الزنا ليست شأنًا فرديًا، يطبقه من شاء كيف ومتى ما شاء، وفق حبش، مضيفًا أن هذا شأن الحكومة الشرعية التي من واجبها تطبيق القانون، ولا يتم ذلك إلا بعد أن تكون الأمة قد اختارت تطبيق هذا الحكم ووافقت عليه عبر مؤسساتها الديمقراطية، وللحدود شروط كثيرة ودقيقة لا بد منها حتى يتحقق الحكم الشرعي.
وأشار الباحث الإسلامي إلى أن هذه الشروط لها من “الشدة والصرامة”، بحيث يستحيل تحققها.
واعتبر ارتكاب جرائم القتل باسم “جرائم الشرف” منطقًا مرفوضًا إسلاميًا وفق آلة الفقه الإسلامي وأصوله.