عنب بلدي – أمل رنتيسي
“اللغة الروسية صعبة، لكنني أردت حقًا إرضاء البحارة الروس، الذين ساعدوا جنبًا إلى جنب مع الطيارين في تحرير الأرض من القمع الإرهابي”، هذه العبارة جاءت على لسان طفل سوري خلال حفلة موسيقية أقامها البحارة الروس في محافظة طرطوس، في 12 من حزيران الماضي، احتفالًا بمناسبة “يوم روسيا”، بحسب ما نقلته قناة “Tvzvezda” الروسية.
في كل مناسبة واحتفال وطني يحدث في روسيا، تكون قاعدة “حميميم” العسكرية الروسية في سوريا، وما يجاورها من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، مكانًا للاحتفال أيضًا.
ويأتي هذا ضمن سياق التدخل العسكري والسياسي لروسيا في سوريا منذ أيلول من عام 2015، إذ وجدت لنفسها خلال السنوات الأخيرة منفذًا على الجانب الثقافي، تمثّل بتدريس اللغة الروسية في المدارس السورية، وقيام أطفال سوريين لا تتعدى أعمارهم الـ16 بالغناء للروس في مناسباتهم وإحياء حفلاتهم.
أطفال تُسلَب إرادتهم تحت مظلة “ثقافة جديدة”
أحدث ما نشرته القنوات الروسية هو احتفالية “يوم روسيا”، التي “وجّه فيها أطفال سوريون التهنئة والتحية للجنود الروس الموجودين في مدينة طرطوس بمجموعة من الأغاني باللغة الروسية “، بحسب ما نشرته وكالة “سبوتنيك” باللغة العربية.
وقال نائب القائد العسكري للمركز اللوجستي الروسي، ألكسندر بريزيوك، “يسعدنا أن ندرك أننا نقف بجانب السفينة الروسية وهي على أرض الجمهورية العربية السورية، ونسمع أغاني رائعة باللغة الروسية من قبل الأطفال السوريين، وهئذا يؤثر بشكل كبير على الروح المعنوية”.
ورصدت عنب بلدي العديد من المقاطع المصوّرة لأطفال سوريين يؤدون أغاني روسية تخص أعيادًا روسيّة. ففي 23 من شباط الماضي، احتفل الروس في قاعدة “حميميم” بمناسبة عيد “حماة الوطن”.
وغنى أطفال سوريون أغاني بالروسية، وقالت الفتاة السورية مها سليمان، لتلفزيون “Tvzvezda” الروسي، “أنا أغني هذه الأغنية الآن لأنه لا تزال هناك حرب مستمرة في بلدي”.
وانتشر تسجيل مصوّر لأختين من محافظة اللاذقية، في 5 من أيار عام 2020، قبيل “يوم النصر على النازية”، تغنيان نشيدًا روسيًا، وشكرتا الجيش الروسي على “إنقاذ وطنهما”، بحسب ما نقلته وكالة “Rusvesna” الروسية.
الباحث الاجتماعي السوري حسام السعد قال في حديث إلى عنب بلدي، إن هذه الظاهرة التي صار يستخدمها الروس للترويج لاحتفالاتهم بوجود الأطفال السوريين، وتعزيز فكرة “إنقاذ الوطن” بالنسبة لهم، ستنشئ جيلًا مشبعًا بأيديولوجيا تقدير وامتنان لروسيا، حتى لو كانت محتلة للبلاد بطريقة غير مباشرة، بل ويتم تفضيل الروس على بقية مكونات الشعب السوري.
وأوضح السعد أن المكان والمكوّن المجتمعي يلعب دوره هنا، فالأبناء يتبنون رواية أهاليهم عن “الحرب على الإرهاب”، بحسب روايتهم، وبالتالي فإن سلوك الأطفال وأهاليهم من ورائهم يدل على تقديرهم لروسيا كحليف حافظ على بقاء النظام، وبالتالي لم تتم محاكمة من قام بعمليات الإجرام والقتل بحق الشعب السوري.
ويرى الطبيب النفسي السوري محمد الدندل، أنه من حيث المبدأ، لا شك بأن الطفل إذا تعلم لغة جديدة أو اطّلع على ثقافة جديدة قد تكون قيمة مضافة له.
لكن عندما يأتي هذا التعلّم تحت تسييس وضغط وأهداف سياسية، فالطفل بهذه الحالة يُستخدَم كمادة دعائية، وبالتالي “اغتُصبت طفولته” وسيدفع الثمن، بحسب ما قاله الطبيب لعنب بلدي.
وأضاف أن الأهل من الممكن أن يكونوا أعداء لأطفالهم عبر استخدامهم للتملّق لمسؤول معيّن أو لتحصيل مكاسب معيّنة، وقد يكون الأهالي مخدوعين ومسيطرًا عليهم، وفي جميع الأحوال الطفل هو الضحية.
ويمكن أن تتسبب هذه الظاهرة بـ”انشطار هوية” للطفل من قبل مجتمعه عندما يكبر، إذ يتم تلقينه شيئًا خاصًا بقوة مسيطرة أو “احتلال” يتعارض مع هوية الطفل الأساسية التي يجب أن يكون الانتماء لها وأن يشعر بالفخر بثقافته وهويته، حسب الطبيب النفسي.
غناء.. موسيقى.. رحلات ومعسكرات
وسائل “ناعمة” تستخدمها روسيا لتلبية طموحاتها في سوريا
تشكّل سوريا مركز نشاط “الكرملين”، حيث يستخدمها الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، نقطة انطلاق لإبراز قوّاته في جميع أنحاء المنطقة وفي أوروبا وإفريقيا أيضًا، بحسب تحليل تحت عنوان “وجود روسيا في الشرق الأوسط: هل هو مصدر استقرار أم استفزاز؟”، لمعهد “واشنطن”.
وبحسب التحليل المنشور في نيسان الماضي، يتجلى اهتمام موسكو بشكل واضح في سوريا من خلال كشف النقاب عن نصب تذكاري للقديس الشفيع للجيش الروسي الأمير ألكسندر نيفسكي، في قاعدة “حميميم” الجوية الروسية في سوريا، إذ يبيّن ذلك التزام روسيا على المستوى الرمزي والعملي على حد سواء، ويتردد صدى الرمزية في كل من الشرق الأوسط وروسيا.
وأضاف التحليل أنه في حين تُعتبر مصالح موسكو في الشرق الأوسط جيوسياسية في المقام الأوّل، فإن هناك أيضًا جانبًا تجاريًا، إضافة إلى الأبعاد الثقافية والدينية.
وعلى الصعيد الثقافي، وبينما ستبقى روسيا في سوريا مدة لا تقل عن 49 عامًا، فمن الطبيعي أن تستخدم من أجل تلبية طموحها كثيرًا من الوسائل غير العسكرية أو السياسية لضمان وجودها وتقبلها من قبل المكوّنات المجتمعية المتعددة، بحسب ما قاله الباحث الاجتماعي السوري حسام السعد، في حديثه إلى عنب بلدي.
والوضع الحالي يزاوج بين السياسة والثقافة، أي أن روسيا تحاول أن تخلق لها قاعدة شعبية، من خلال اللغة والثقافة، في المجتمع السوري، ليكون تدخلها في شؤون الحياة المختلفة مقبولًا ومبررًا، إذ يبرز جيل الأطفال والفتيان كمستهدفين من قبلهم بالدرجة الأولى، وذلك بسبب صغر سنهم، إضافة إلى تبنيهم رواية النظام السوري عن الحرب في سوريا.
وأشار بوتين، في كلمة له خلال اجتماع لسفراء وممثلي روسيا عام 2012، أن سياسة “القوة الناعمة” تنص على تعزيز مصالح الفرد ومقارباته من خلال إقناع وجذب التعاطف مع البلد، وذلك باستخدام إنجازاتها ليس فقط في المجال المادي، ولكن أيضًا في مجال الثقافة الروحية والثقافة الفكرية.
يُعرّف مفهوم “القوة الناعمة” بأنه استخدام النفوذ الثقافي والاقتصادي لبلد ما لإقناع الدول الأخرى بفعل شيء ما بدلًا من استخدام القوة العسكرية، حسب تعريف قاموس “كامبريدج“.
وحدد أستاذ العلوم السياسية الأمريكي ومؤلف كتاب “القوة الناعمة” جوزيف ناي، ثلاثة مصادر رئيسة للقوة الناعمة في أثناء تطويره للمفهوم، هي القيم السياسية، والثقافة، والسياسة الخارجية. |
وكوسيلة للترغيب في تعلّم اللغة الروسية، تتبعت عنب بلدي أحد المراكز التعليمية للغة الروسية في مدينة جبلة بمحافظة اللاذقية ويدعى مركز “الراهب للتدريب والتنمية”، الذي يرسل بالتعاون مع “المركز الروسي بجامعة دمشق” أطفالًا سوريين إلى معسكرات ترفيهية في روسيا.
كما يروّج المركز لـ”رحلات ترفيهية” إلى روسيا لمدة 25 يومًا للأطفال الذين يحصلون على علامات تامة في مادة اللغة الروسية.
ووفق ما يراه الباحث الاجتماعي السوري حسام السعد، فإن هذه الوسائل “الناعمة” تم استخدامها من جميع الدول الاستعمارية في القرنين الـ19 والـ20، إذ كانت هناك مقدمات ثقافية وفكرية تبرر وجود تلك الدول كمستعمِرة.
وفي حالة روسيا، فإن الأمر اليوم لا يخرج عن تلك القواعد التي سلكتها الكثير من الدول قبلها، ويجب التذكير بالأيديولوجيا الاشتراكية التي صبغت الحياة الثقافية السورية بصبغتها في مرحلة الانضواء تحت سياسات الاتحاد السوفييتي السابق، إذ كانت الترجمات في الرواية والشعر والفلسفة وغيرها أكثر المنتجات الثقافية في سوريا على مدى عقود طويلة.
ويؤكد المتخصص في الشؤون السورية بوكالة أبحاث الدفاع السويدية آرون لوند، في بحث أعدّه عام 2019 بعنوان “من الحرب الباردة إلى الحرب الأهلية: 75 عامًا من العلاقات الروسية- السورية”، أنه كشفت عقود من التعاون الثنائي خضوع العديد من السوريين العاديين أمام التأثيرات الروسية.
فقبل الحرب في سوريا، ورد أن “الرابطة السورية لخريجي الجامعات الروسية” كانت تضم 35 ألف عضو، حسب البحث.
وبدأت وزارة التربية في حكومة النظام السوري بإدراج اللغة الروسية في مناهجها للتلاميذ والطلاب في المدارس منذ بداية العام الدراسي 2015- 2016.
وبحسب أحدث إحصائية في شباط الماضي، بلغ عدد المدارس السورية التي تعتمد الروسية لغة ثانية 217 مدرسة، وعدد الطلاب الدارسين للغة الروسية 30 ألفًا و747 طالبًا، يدرّسهم 190 معلمًا.
وأعطى جنود روس في مدينة القامشلي شمال شرقي سوريا، في كانون الأول 2020، أول درس لهم في اللغة الروسية لما يقارب 40 طالبًا سوريًا، بعد طلب إدارة المدرسة من قيادة الشرطة العسكرية الروسية المساعدة في تنظيم افتتاح الفصل الدراسي الروسي.
وافتُتحت أول روضة في سوريا لتعليم الأطفال اللغة الروسية بمدينة حلب في تشرين الثاني 2020.
وقالت مدرّسة اللغة الروسية في حلب إلينا كرافتسوفا، إن “هناك طلبًا مرتفعًا للغاية على اللغة الروسية”، مضيفة أنها تسهم في “العلاقات الودية السورية- الروسية، وتعلم الأطفال”.
وكان “المركز الثقافي الروسي” في دمشق استأنف نشاطه بعد أكثر من عام على إعادة فتحه، عام 2019، وفتح أبوابه أمام الراغبين في تعلم اللغة الروسية والموسيقى، بحسب تصريحات لمدير المركز، نيقولاي سوخوف، نقلها تلفزيون “روسيا اليوم”، في أيار الماضي.
وأرجع المدير استئناف الدورات إلى أنه استجابة للضغط الاجتماعي والطلبات التي تلقاها المركز، موضحًا أن 80 شخصًا سجلوا في دورات اللغة الروسية و50 في دورات الموسيقى.
ووصف مدير المركز عودة دورات اللغة الروسية بأنها “أول خطوة لاستعادة الوجود الإنساني الروسي في سوريا”، وسط خطط لتوسيع هذه الأنشطة إلى مدن سورية أخرى.
كما افتتحت وزارة التعليم العالي في حكومة النظام، في تشرين الثاني 2014، قسمًا للغة الروسية وآدابها في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة “دمشق”.