عنب بلدي – ديانا رحيمة
“فيّشت وما طلع على اسمي شي”، كانت هذه آخر كلمات صديق همام الذي عاد إلى سوريا بعد أن تقطعت به السبل، وقرر أن يعود إلى وطنه بعد أن تأكد من عدم وجود اسمه على أي من لوائح المطلوبين لدى الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري، بالطريقة التي تُعرَف لدى السوريين بما يسمى “التفييش الأمني”.
قُبض على صديق همام لدى وصوله إلى سوريا، في حزيران الماضي، وبعد التواصل مع جهات وسيطة للإفراج عنه، طلبت 100 ألف دولار أمريكي تُحوّل إلى حساب قالت إنه يعود لـ”الفرقة الرابعة”، لإخراجه حيًا وإسقاط التهم الموجهة له.
وقال الوسطاء، إن اسم الشخص المطلوب للفرع لا يظهر في حالة “التفييش العام”، ويجب أن يتم في الفرع الذي يطلب فيه الشخص بعينه، بحسب ما نقله همام لعنب بلدي.
يتعرض السوريون لمراجعات متكررة من قبل الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري داخل المناطق التي يسيطر عليها، في كل مرة يدخل إليها الفرد سواء كان قادمًا من جهة خارج سوريا أو من مناطق نفوذ قوى أخرى داخلها.
تأخذ هذه المراجعات الأمنية طابع إعادة فحص سيرة الشخص لعدة أيام واستجوابه عن آرائه السياسية، وسبب خروجه من سوريا ودخوله إليها، وفق ما أوضحه المحامي السوري نادر المطروح في حديث إلى عنب بلدي.
وقد تمتد المراجعات إلى الاعتقال لفترات غير معروفة، يلحقها ابتزاز لذوي المعتقل مقابل معلومات عنه أو إطلاق سراحه، أو مقتله تحت التعذيب.
وتتكرر هذه الحالات منذ عام 2011، إذ وثقت “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” عمليات الابتزاز المالي لعائلات المعتقلين والمختفين قسرًا، مقابل تزويدهم بمعلومات عن أبنائهم أو أحبتهم، أو وعدهم بزيارات لرؤيتهم، أو إطلاق سراحهم.
ويظهر تقرير الرابطة بالأرقام أن النظام السوري جنى من ابتزاز عائلات المعتقلين والمختفين قسرًا ما يقارب 900 مليون دولار أمريكي (868.9 مليون) منذ بداية 2011 حتى مطلع عام 2021.
مخالفة صريحة للدستور
هذه المراجعات الأمنية المتعلقة بالأشخاص القادمين إلى مناطق سيطرة النظام السوري، فقط لكونهم قرروا الدخول إلى مناطق نفوذه السياسي، هي ممارسات تخالف مبادئ الدستور السوري نفسه، الصادر عام 2012، وفق المحامي المطروح.
إذ ضمنت المادة رقم “38” من الدستور “لكل مواطن الحق بالتنقل في أراضي الدولة أو مغادرتها، إلا إذا مُنع ذلك بقرار من القضاء المختص أو من النيابة العامة أو تنفيذًا لقوانين الصحة والسلامة العامة”.
تمتد ممارسات الأجهزة الأمنية لاعتقال أشخاص قادمين إلى سوريا دون مذكرات توقيف قضائية ودون تنفيذ لقانون معيّن، وفق ما قاله المحامي، ولا يجوز منع أي سوري من العودة إلى وطنه، أو عرقلة ذلك من قبل الأجهزة الأمنية، بسبب حماية حرية التنقل داخل الأراضي السورية أو الخروج منها، وبالتالي فالمراجعات الأمنية تعد مخالفة صريحة للدستور في باب الحقوق والحريات الفردية.
وحتى إن كانت حرية التنقل غير منصوص عليها في الدستور، فإن أصل الأشياء الإباحة، والدستور لم يأتِ على ذكر أي شيء يؤدي إلى الانتقاص من هذا الحق في التنقل.
كما أن قانون العقوبات السوري لم يرد فيه المنع من السفر كعقوبة أصلية أو فرعية أو إضافية سواء كانت الجريمة ذات صفة جنائية أو جنحية، وبذلك، فإن إخضاع الشخص إلى الاستجواب في كل مرة يقرر فيها الدخول إلى المناطق المسيطر عليها من قبل النظام هو مخالفة دستورية للمادة رقم “51” التي تنص على أن “لا جريمة ولا عقوبة إلا بقانون”.
وبحسب الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإن حرية التنقل هي جزء من حرية الفرد، التي تجعلها أحد الحقوق الأساسية لدى الإنسان، لا يجوز التصرف بها بشكل تعسفي، ودونها قد يتعرض الفرد للقمع السياسي.
وقد يتم الحد من حرية التنقل كتدبير وقائي في حالات معيّنة، وفق ما قاله المحامي المطروح، وذلك لضمان حقوق أخرى يُخشى أن تُهدر في حال سُمح لشخص ما بمغادرة البلد قبل أداء هذه الحقوق. لكن يكون ذلك المنع بإصدار قرار قضائي ينص صراحة على منع التنقل أو السفر إلى خارج البلد، لضمان تسديد دين أو لتنفيذ حكم قضائي أو لمتهم بجرائم جنائية أو لمشتبه به بارتكابه هذه الجرائم، بهدف ضمان مثولهم أمام المحكمة، ولتنفيذ العقوبة في حال تمت إدانتهم.
مصممة لخرق القانون
يفترَض أن تتبع الأجهزة الأمنية لوزارة الداخلية، ولكن في الواقع السوري، لا يستطيع حتى وزير الداخلية أن يملك سلطة عليها أو يحاسبها، بينما لرئيس المخابرات “الجوية” أو “العسكرية” سلطة أكبر على هذه الأجهزة من وزير الداخلية نفسه، بحسب ما قاله مدير “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فضل عبد الغني، في حديث إلى عنب بلدي.
ولدى رؤساء الأفرع السابقة علاقات مباشرة مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، فلا يستطيع جهاز الشرطة أو الجهاز القضائي الذي يتبع للأجهزة الأمنية محاسبة أي من مرتكبي الانتهاكات التابعين للأفرع الأمنية.
وبتنصيب الأسد لنفسه رئيسًا لمجلس القضاء الأعلى في سوريا، على الرغم من تسلّمه السلطة التنفيذية، وتعيينه القضاة في المحكمة الدستورية العليا بما يتناسب مع مصالحه، أنهى أي دور للسلطة القضائية في التحكم بزمام الأمور، الأمر الذي لا يجري سوى في سوريا وكوريا الشمالية (أي في الدول التي تعتبر في أسفل السلّم الدولي)، بحسب عبد الغني.
شرعنة الجريمة
من الصعب محاسبة الأجهزة الأمنية قضائيًا، ولم تجرِ محاسبة عنصر أمني واحد حتى الآن، على الرغم من كل الانتهاكات المرتكبة في أثناء المراجعات الأمنية من تعذيب وقتل واغتصاب.
وبحسب عبد الغني، فإن التأسيس المتوحش لبناء الدولة الموضوع من قبل النظام ابتكر نصوصًا أمنية تحت مسمى “قوانين” لتحمي الأجهزة الأمنية في حال تجرأ أحد القضاة على محاسبتهم أو أخذ أي خطوة بحقهم، فتأتي هذه القوانين الأمنية أو المراسيم التي وُضعت لشرعنة الجريمة، كالمرسوم “14” الذي يقضي بعدم ملاحقة العاملين بإدارة “أمن الدولة” قضائيًا على مهامهم إلا بموجب أمر صادر عن مديريهم الذين لن يحاسبوهم في الأساس لأنهم هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن أخطائهم.
وكذلك الأمر في المادة “74” التي تمنع محاسبتهم، والمرسوم التشريعي رقم “69” الذي صدر عام 2008 والذي يقضي بمنع محاسبة الضباط وصف الضباط وشعبة الأمن السياسي والضابطة الجمركية نتيجة تأدية المهام الموكلة إليهم.
وبحسب القانون الدولي، ففي حال أمر الرئيس مرؤوسه بالقيام بفعل مخالف لمبادئ حقوق الإنسان، يجب عدم إطاعته، وفي حالة إطاعته يتحمل المسؤولية كلا الطرفين.
أما المرسوم “55” الصادر عام 2011، فيعتبر أسوأ من كل المراسيم التي سبقته، بحسب فضل عبد الغني، فالمادة رقم “1” فيه تحمي الضابطة العدلية والمفوضين منها، وتسمح باحتجاز المواطنين لديها لفترة تتراوح ما بين سبعة أيام و60 يومًا قابلة للتمديد، دون حتى توجيه أي تهمة للمواطن سوى أنه مشتبه به.
وبحسب تقرير لـ”الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فإن النظام أخلَّ بعدة مواد في الدستور السوري، عبر احتجاز مئات آلاف المعتقلين حتى دون مذكرة اعتقال لسنوات طويلة، ودون توجيه تُهم.
كما حظر عليهم توكيل محامٍ والزيارات العائلية، مشيرًا إلى تحوّل قرابة 65% من إجمالي المعتقلين إلى مختفين قسرًا، ولم يتم إبلاغ عائلاتهم بأماكنهم، وفي حال السؤال عنهم، تُنكر الأفرع الأمنية والسلطات وجود الشخص المعتقل، بل وربما يتعرَّض السائل عنه لخطر الاعتقال.
ووثقت “الشبكة” في تقريرها الصادر عام 2019، اختفاء ما لا يقل عن 638 لاجئًا عادوا قسرًا إلى سوريا، ومقتل 15 تحت التعذيب، وطالبت “الشبكة” اللاجئين السوريين بعدم العودة مطلقًا إلى سوريا، على اعتبار أن النظام لا يزال يشكل “تهديدًا عنيفًا بربريًا”.