نبيل محمد
أتاحت منصة “نتفليكس” مؤخرًا الفيلم الوثائقي “إبراهيم إلى أجل غير مسمّى” للمخرجة لينا العبد، الفيلم الذي حاز على جائزة “السوسنة السوداء” كأفضل فيلم وثائقي عربي في مهرجان “عمان” السينمائي بدورته الأولى، وكان قد حاز على جائزة أفضل وثائقي عربي في مهرجان “الجونة” السينمائي بمصر، وجائزة لجنة تحكيم مهرجان “قابس سينما فن” السينمائي في تونس، الفيلم الذي لا بد أن من يعرف قصة حياة مخرجته، سيتوقع أن منجزًا استثنائيًا عميقًا سيكون عليه الفيلم، فهي الصحفية الفلسطينية، التي عاشت في دمشق، ودرست في جامعتها (قسم الصحافة كلية الآداب والعلوم الإنسانية)، في ظل بحث لم ينقطع عن والدها الغائب وتفاصيل حضوره بعيدًا عن عائلته ثم غيابه عنها.
ينتمي الفيلم إلى نوع خاص من السينما الوثائقية التي لا تبحث عن حقائق مثبتة بالوثيقة والتاريخ والصورة، لكن أسئلة كثيرة تتطلب الإجابة عنها، أسئلة مطروحة في ذهنية الابنة، أسئلة هوية وانتماء وحقيقة، لا تفترض فيها ملائكية الأب التي قد تكون متوقَّعة لدى ابنته الباحثة عنه، هي تريد تبديد ضباب ما يعتمل حول صورته في مخيلتها، تريد مكاشفة ما مع زوجته (أمها) وأبنائه، ومع البيئات التي حضر فيها، وخرج منها، ودافع عنها سياسيًا وعسكريًا.
إدراك المخرجة أن والدها لم يكن منتميًا لتنظيم واضح المعالم في نظريته وسلوكه، هو ما يجعل البحث غير متركّز على السيرة الحياتية النضالية، فوالدها إبراهيم العبد كان منتميًا لأحد أكثر التنظيمات سرية وجدلية في مسيرة القضية الفلسطينية، “المجلس الثوري” تنظيم “أبو نضال”، ذاك الذي صُنّف كتنظيم إرهابي لدى جهات كثيرة، من تنظيمات مقاومة فلسطينية، إلى خارجيات ودول غربية وعربية، تنظيم فاعل في الاغتيال السياسي وتنفيذ العمليات. ومن ينتمون إليه، كانوا يدركون تمامًا أن البداية في هذا التنظيم تعني النهاية فيه، وتعني أن ما سيتركه الماضون اغتيالًا جراء الانتماء إليه، هي أسئلة كبرى عن الهوية والوطن والحب والانتماء، أكثر من كونها قيمًا ومبادئ ثابتة.
سيرة البحث تلك، تبدأ في ذواكر ونفوس المقربين من الأب، زوجته وابنته وابنه، الذين تريد منهم الابنة لحظات بوح، واعترافات، تريد لومًا وعتبًا هنا، وانسلاخًا عن القضايا العامة التي شتّتت الأسرة، وجعلتها بانتظار خبر اغتيال ربّها بين حين وآخر. تريد المخرجة أيضًا أن تستقرّ على حكم ما، فتسخّر الجغرافيا وترسم رحلتها بين البيوت التي سكنها الأب، والشوارع التي مر بها يومًا ما، من مصر إلى فلسطين حيث ينتهي الفيلم في قرية دير مشعل، القرية التي نشأ بها الأب، ولا بد أنها منبت إصراره الأول على حق تحرير الوطن والعودة، هنا نرى البيوت الريفية والزيتون والأرض وترابها، والأحجار القديمة، بكاميرا تلهث لتخبرنا أن هذا هو الوطن المعشوق الذي يبرر لابنه كل ما سيفعل مستقبلًا جراء سلبه منه. هنا حيث أقاربه يذكرونه تمامًا، وحيث ابن عمّته يحاول مليًا أن يقنع الجميع أنه غير ضالع في تصفية والدها. كان مشهد لقائها به وسؤالها عن دوره في تصفية إبراهيم المشهد الأكثر تأثيرًا، الذي تظهر فيه وقد غابت ابتسامتها التي رافقتها في حلة البحث الطويلة، وصارت جزءًا من مشهد محاكمة غير تام الأركان، ليس بيدها وثيقة، هي تحمل شكوكًا وعتبًا، وأسئلة لا أجوبة جاهزة لها، وإن كان بالفعل ابن العمة هذا ضالعًا في الاغتيال، فهل يبرؤه ظرفه حينها؟ سؤال مشابه لسؤال براءة الوالد من قضية أفعال التنظيم، وبراءته من تهمة الابتعاد عن أسرته وأبنائه الكثر متفرغًا للشأن العام. هل برَّأته بالفعل؟ هل هي تتهمه أصلًا؟ الفيلم كله يدور في هذا الفلك مترامي الأطراف بالحقائق والتناقضات، والرؤى والخيالات والعواطف.
من يعرف لينا العبد تلك الطالبة النشيطة المجدّة، الأمثولة في كليتها، حيث لا مفرّ لصحفيي المستقبل في الكلية من الخمول وسوء التلقي والتبعية للمناهج الجافة وللنظام التعليمي المتخلف والفساد، سوى بشخصية طالب يقرر حمل الكاميرا منذ بداية تلقيه الدروس في الصحافة، ليكون صحفيًا بامتياز كلينا العبد.