الشهيد عبد الرحيم شربجي «أبو مصعب»
جريدة عنب بلدي – العدد 43 – الأحد – 16-12-2012
«لمين بدي اترك بيتي وحارتي، أنا ولدت هون وبدي موت هون»
مع إنطلاقة الثورة السورية وفي أحد أيام الجمعة، والذي كان أول يوم جمعةٍ دامٍ في داريا (يوم الجمعة العظيمة 22 نيسان 2011)، وبعد أن ارتكب النظام وعناصره أول مجازرهم بحق أبناء داريا حين سقط ثلاثة من أبنائها ليكونوا أول شهداء في المدينة، وبينما كان عناصر النظام ينسحبون من المدينة مدججين بأسلحتهم، كان الحاج أبو مصعب يقف أمام منزله يراقبهم وهم يتغنون بأفعالهم ويهتفون لقائدهم، مزهوين بما ارتكبوه من سفك للدماء البريئة في سبيله، حينها صرخ به أحد العناصر يأمره بالدخول إلى منزله، فرد عليه الشهيد أبو مصعب بكل هدوء وثبات «هذا بيتنا وهذه حارتنا، عساكم تذهبوا أنتم لتحرير الأقصى فذاك خيرٌ لكم»…
كان لا يخشى في قول كلمة الحق لومة لائم، كان لا يتردد في الصدح بقول الحق ولا يسكت عن مواجهة الباطل. كيف لا؟ وهو صاحب فكر إسلامي متجدد، وتاريخه خير شاهد على ذلك.
كان يحافظ على صلاة الجماعة في المسجد مهما تكن الظروف. وفي أحد الأيام وبينما كان يخرج من منزله ليتجه إلى المسجد نبهه جيرانه إلى أن القناص المتمركز على الحاجز القريب قد أطلق النار قبل دقائق على أحد المارة في الشارع العام فسقط شهيدًا، وطلبوا منه عدم الذهاب إلى المسجد خوفًا عليه. شكرهم الحاج أبو مصعب على اهتمامهم وحرصهم وتابع سيره إلى المسجد ليجتاز ذلك الشارع بعد أن قال لهم إما أن أذهب إلى المسجد أو أن أذهب إلى الجنة.
الشهيد أبو مصعب الشربجي، لم يكن رجلًا عاديًا وبخاصة عندما تقارنه مع أبناء جيله. ففي مطلع العام 2003 كان الشهيد أبو مصعب أحد المشاركين في عدة حملات نُظمت على مستوى مدينة داريا لمكافحة الفساد والرشوة ولنشر ثقافة النظافة بين أبناء المدينة، فكان مع الشباب يحمل معهم المكانس والأكياس لينظفوا شوارع مدينتهم ليكونوا قدوة لمن حولهم ولغيرهم من أبناء المدينة. وعندما دخلت القوات الأمريكية العراق في نيسان 2003 شارك الحاج أبو مصعب في مسيرة صامتة تنديدًا بالعدوان الأمريكي، الأمر الذي لم يعجب النظام وقتها فقام بملاحقة المنظمين والمشاركين في تلك المسيرة والنشاطات السابقة واعتقلهم جميعًا بشكل تعسفي دون توجيه أي تهم واضحة لهم. حينها قبع أبو مصعب لثلاثة أشهر في زنازين فرع أمن الدولة، وأمضى معظم تلك الفترة في الزنزانة المنفردة دون أية مراعاة لعمره أو وضعه الصحي. وبعد الإفراج عنه استمرت زياراته الدورية للأفرع الأمنية التي كانت تتابعه باستمرار للحيلولة دون قيامه بأي نشاط فكري أو ديني خارج نطاق الدولة. واستمرت الأجهزة الأمنية بمتابعته والتضييق عليه حتى قامت أواخر العام 2010 بمداهمة منزله ومصادرة عشرات الكتب والأقراص الليزرية منه، واصطحبوه معهم للتحقيق معه على خلفية لقاء فكري مع بعض أصدقائه، واستمر التحقيق معه لثلاثة أيام.
في بداية الحراك الثوري في سوريا ومع انطلاقة ثورة الكرامة، كان الشهيد أول الداعمين والمشجعين للنضال ضد الظلم والاستبداد. كان يحفز الشباب ويشد على أيديهم، كما شارك في المظاهرات وحضر الاجتماعات التي عُقدت في بداية الثورة بهدف الحوار. ومن المواقف الموجبة لاحترام هذه الشخصية الثورية قيامه بالمشاركة في إحدى المظاهرات التي انطلقت من مدينة داريا وتوجهت إلى جارتها المعضمية سيرًا على الأقدام فسار معهم رغم الحرّ حاملًا عصاه وهو يتوكأ عليها. ولم يمضِ على تلك المظاهرة سوى أسبوعين حتى قامت الأجهزة الأمنية وفي مقدمتها جهاز المخابرات الجوية بعملية مداهمات ليلية لعدد كبير من منازل المدينة واعتقلوا الحاج أبو مصعب بينما كان متوجهًا إلى المسجد لصلاة الفجر. اعتقلوه يومها بطريقة همجية واعتدوا عليه بالضرب والإهانة وأساءوا إليه دون أن يراعوا كبر سنه أو سوء حالته الصحية.
وبعد اعتقال دام 28 يومًا في ظروف سيئة تم تحويله إلى محكمة داريا التي أفرجت عنه.
وبعد الإفراج عنه عادت دماء الثورة تسري في عروقه من جديد، هذه الدماء التي لم تتوقف يومًا حتى في أحلك اللحظات التي عاشتها مدينته داريا، لحظات القصف والاقتحامات التي دفعت بكثير من أبناء المدينة للنزوح منها. ويوم أن جاءه أهله وأبناؤه يطلبون إليه مغادرة منزله ومدينته خوفًا عليه من القصف العشوائي الذي يستهدف المناطق السكنية، رفض مرافقتهم مختارًا البقاء في منزله «لمين بدي اترك بيتي وحارتي، أنا ولدت هون وبدي موت هون» قالها بكل حزم وهو يدعو لهم بالسلامة والأمان.
أبى أبو مصعب أن يترك بيته ومدينته ووطنه عرضة للشبيحة وقوات النظام يستبيحونها ويستحلونها، وفضّل العيش أو الموت تحت قصف صواريخ راجمات النظام وطائراته على أن يغادر.
وفي يوم الأربعاء الموافق 28 تشرين الثاني 2012 استهدفت غارة جوية المنزل الذي كان يقيم فيه مع ابن اخيه مروان ورفيق دربه محمد قريطم «أبو النور» بصاروخ يعتقد أنه يحمل غازات سامة ليرتقوا معًا إلى السماء، ودماؤهم الزكية تروي تراب الوطن وأرواحهم الطاهرة تعلو في السماء مبشرة ببزوغ فجر جديد.
(هُزّ الرمح بعود الزان نحنُ شبانُ الإيمان كلماتٌ كان يرددها باستمرار ويتغنى بها ذلك الرجل الذي قارب السبعين من العمر، حامل روح الشباب وصاحب القلب الطيب، والصادح بالحق في كل الأوقات والظروف. )
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :