نبيل محمد
لم تعد فرصة اجتماع ممتهني المسرح السوري متاحة للخروج بعرض لائق، وصارت التجربة المسرحية السورية خلال السنوات السابقة محكومة بعروض الممثل الواحد على إحدى خشبات المهجر، أو بتلك العروض التي تحاول بث الروح في المسرح بالداخل السوري، الذي يحكمه منطق الحياة هناك بأن لا روح يمكن بثها بأي شيء في ظل خراب البلاد.
ليس من المبالغة القول إن عرض “عودة دانتون” الذي قدّمته الفرقة المسرحية السورية “تجمّع مقلوبة” ضمن مهرجان “شُبَّاك” استثناء في سبات الحركة المسرحية السورية الراهن. العرض التجريبي الاحترافي الذي استخدم مسرحية “موت دانتون” للكاتب الألماني جورج بوشنر ليتكئ عليها في استعراض راهن أولئك الممثلين السوريين اللاجئين التائهين بين كآبة انتظار المجهول، واستعادة النشاط غير المضمون النتائج.
بين ممثل محترف قديم يرفض العمل في أجواء الدراما التي تضم من يختلف معهم فكريًا وعقائديًا، ويضطر تحت ضغط أسرته للعمل بهدف كسب الرزق لا أكثر، وآخر تكسّر حلم الممثل في داخله واستعاض عن ذلك بأن يعمل في “الموسيقى”، و”دراماتورج” مضطرة للقبول بالعمل مع الفرقة رغم أنها مدركة أن وجودها هو مجرّد استخدام لكونها أنثى، ومخرج يبحث عن انطلاقته الأولى مستعدًا لدفع أي ثمن أخلاقي مقابل الظهور. تحكم الفوضى النفسية كل شيء، ليبدو في النهاية أن الصراع المركزي هو صراع في داوخل الشخصيات ذاتها، تحت وطأة انكسارات متتالية، وعدم قدرة على الاندماج في المجتمعات الجديدة التي لجؤوا إليها.
يُحسَب للعمل بالدرجة الأولى بساطته في تقديم شخصياته، ومباشرته في عرض مشكلاتها، وهو ما يتيح للممثلين التماهي الواضح مع تلك الشخصيات، وكأن أحدًا منهم لا يمثّل سوى ذاته، فمن الصعب أن تفترض حياة يعيشها محمد آل رشي مختلفة عن حياة “رضا”، وكذا “محمد ديبو” الذي لعب الدور الأهم في تحريك الركود الذي يتيح له النص الدخول إلى جو المسرحية بين حين وآخر، “جوينتات الحشيش” التي يلفها ويقنع الجميع بها، تلعب الدور في تكشيف أعماق الشخصيات، وحاجتها إلى الخلاص وإن كان لحظيًا، وعدم تفريطه بعاداته وشخصيته يحفظ من كرامته في عودته إلى المهنة التي تركها منذ زمن، ليبدو وبكل الفوضى التي تحكم حياته، الأكثر استقرارًا، وربما الأكثر فاعلية في تحريك العمل ككل، سوى الصبغة الكوميدية التي خرجت بأهم المشاهد في العمل، كمشهد المساومة بينه وبين المخرج على طول وسماكة “الجوينت” الذي يحق له تدخينه كل يوم قبل “البروفا”.
“لكي ينجح أي عمل فني سوري لا بد من حشر قضية بيّاعة، قادرة على التسويق، يتنازل فيها مخرج قادر على التنازل عن أي مبدأ، مقابل كسب التمويل”، هذه المقولة تتضح في شخصية المخرج التي أداها “كنان حميدان”، الذي يظهر بوضوح مدى جهله بإمكانية خلق الرابط بين الثورة الفرنسية، موضوع مسرحية “موت دانتون”، وبين الثورة السورية، لكنه مصرّ على هذا الدمج في ظل رفض “الدراماتورج” المحترفة التي أدتها “أمل عمران” القيام بتلك العملية بهذه الطريقة غير المدروسة.
يواجه المخرج طاقم ممثليه جمعًا وفرادى، مصطدمًا بظروفهم المعيشية التي تمنعهم من التركيز، وتجبرهم على التأخر أو إهمال “البروفا”، ويصر على تقديم العمل في موعده، ويعجز عن الوقوف في وجه سيجارة الحشيش التي تبدأ في يد ممثل واحد، وتنتهي وقد سيطرت على الجميع، وعليه نفسه في النهاية، في المشهد الذي من المفترض أنه المشهد قبل الأخير، وفي المشهد الأخير كان من المنتظر أن يكون “تقديم العرض” تحت تأثير الحشيشة، إلا أن المفاجأة التي أصابت العرض بمقتل، أن تُفرَد الخشبة لأمل عمران، بأداء فردي ليس من المفترض أن يقود وضوح العمل وشفافيته إليه، يبدو واضحًا أن مشهد صراخها ذاك برمزيته ومباشرته، هي من كانت بحاجة إليه أكثر من العرض بلا شك.
العرض من كتابة مضر الحجي وإخراج عمر العريان، عُرض ضمن مهرجان “شُبَّاك” المخصّص للفن العربي في لندن، والذي تقام حاليًا دورته افتراضيًا بين 20 من حزيران و17 من تموز 2021.