حدث في القمّة الأميركية – الروسية ما كان مصمّماً له أن يحدث بين فريقي الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الروسي فلاديمير بوتين. لا مفاجآت ولا مواجهات. بعض اللياقة الدبلوماسية والشخصية تتقاطع مع حزمٍ هنا وليونةٍ هناك. غادر الرجلان القمّة كلٌّ متأبطاً ما أحرزه وأهمّه عدم الإخفاق، عدم التنازل في الملفات المعقّدة، تحديد الخطوط الحُمر، إنهاء الحروب الدبلوماسية بعودة السفراء وإعادة فتح القنصليات، الاتفاق على مبدأ التفاهم مستقبلاً والعمل على سد الفجوات العميقة التي جعلت تحقيق الاختراق في القمّة مستحيلاً ومستبعَداً بالأساس.
لم يتفاوض الرئيسان أثناء قمّة الساعات القليلة، لأن الفريقين فاوضا مسبقاً على كل خطوة وصورة ورمزية في رقصة بايدن – بوتين، ولأن المفاوضات الضرورية لبناء الجسور الضرورية لسد الثغرات في المواقف المتباعدة تتطلّب ورشة عمل جدّيّة على مستوى المهنيّين في مختلف الوزارات. وهذا لربما أبرز ما حققته القمّة، وهو، تعريف كل من الرئيسين ما هي الملفات التي تشكّل له خطّاً أحمر وتلك التي يمكن التفاوض في صددها. من الأمن الاستراتيجي الى مسألة تغيير المناخ مع تشكيل فِرَق عمل لبدء المفاوضات. جو بايدن غادر القمة بزهو قائد الغرب الذي أبلغ الرئيس الروسي بحزم قواعده ومواقفه كقائد الغرب، وليس فقط كرئيس الولايات المتحدة، فلاديمير بوتين حقّق لنفسه نتائج ممتازة في قمّة الإخراج للصورة، إذ كان اللقاء فرصة لإبراز روسيا بوزن ثقيل – وكأنها بعظمة الاتحاد السوفياتي في زمن القطبين – ولإبراز نفسه لاعباً أساسياً على الساحة الدولية يلتقي الرئيس الأميركي على قدم المساواة. كلاهما اتفق على أن يكون للحديث بقيّة.
في الشكل كانت هذه قمّة جمعت قائدي دولتين عظميين. في الفعل، كانت مجرد لقاء تعارف بين الرئيسين الأميركي والروسي لم يحقق أي خطوة رئيسية جذرية في العلاقات بين البلدين. ما من نجاح باهر لهذه القمة، لكن لا فشل.
الرئيسان ووزيرا الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن والروسي سيرغي لافروف لم يمضوا الساعات الثلاث في استراحة، بل استخدموها لتحديد وتعريف المواقف القابلة للأخذ والعطاء في ملفات معيّنة، وتلك غير القابلة للنقاش.
من وجهة النظر الروسية، أفرط الرئيس الأميركي في الحديث بإسهاب عن مسائل حقوق الإنسان في روسيا، وفي مقدمتها قضية المعارض ألكسي نافالني، وخصّص لهذه المسائل وقتاً طويلاً. لكن الفريق الأميركي كان أبلغ الفريق الروسي عند التمهيد للقمّة أن مسألة حقوق الإنسان أهمّ لإدارة بايدن من الرؤوس النووية، حسبما نقل أحدهم عن المحادثات التمهيدية.
فريق بايدن حرصَ كل الحرص على حماية الرئيس من مفاجآت نظيره الروسي، وتم تصميم كل لقطة وكل خطوة لمنع فلاديمير بوتين من أخذ زمام المبادرة. مِن رفض وضع أجندة، الى معارضة عقد مؤتمر صحافي مشترك، الى إنهاء القمة قبل 4 ساعات فيما فريق بوتين أرادها على الأقل 5 ساعات – بل أرادها لأيام كعادة القمم – كان فريق بايدن حازماً في رسم المشهد والسيطرة على الفحوى. فاللياقة والرسالة شيء، والثقة شيء آخر. وبكل وضوح، أبرزت القمّة أن إدارة بايدن لا تثق بفلاديمير بوتين ولربما لن تنسى له، بحسب رأيها، تدخّله في الانتخابات الرئاسية التي أتت بدونالد ترامب رئيساً وسلبت الرئاسة من هيلاري كلينتون. لكنها جاهزة لاحتواء المواجهات ولاستنباط مجالات التفاهم، ثنائياً أو في صدد الملفات الدولية.
ما نقلته مصادر اطّلعت على أجواء القمّة وملفاتها هو أن الرئيسين لم يبحثا في العمق موضوع الصين، لا سيّما أن قمّة حلف شمال الأطلسي (ناتو) والقمّة الأميركية – الأوروبية أوضحتا مواقف الغرب من الصين جليّاً.
في ما يخص المسائل الإقليمية، تحدّث الرئيسان عن إيران وعن سوريا، وحسبما نقلت المصادر، كانت رسالة الرئيس بايدن أن التوصّل الى اتفاق مع إيران ممكن، لكن من غير الممكن القفز على سلوكها الإقليمي. قال بايدن لبوتين إنه يتابع عن كثب ما وصفه باستمرار إيران بسلوك يشكّل عنصراً “خطيراً” في السياسات الإقليمية، وأكد أن الولايات المتحدة لن ترفع كامل العقوبات عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية الى حين تغيير السلوك الإيراني.
أي أن إدارة بايدن جاهزة لرفع المزيد من العقوبات المفروضة على إيران، بالذات في قطاع النفط، لكنها ليست مستعدّة لرفع الحظر العسكري والسماح بصفقات أسلحة لإيران ما دامت إيران تتبنّى ما تسميه إدارة بايدن السياسات والنشاطات الإقليمية “الخبيثة”. بالطبع، مصلحة روسيا تقتضي رفع العقوبات العسكرية قبل غيرها، لأن لها مشاريع صفقات أسلحة ضخمة متشوّقة جداً لبيعها لإيران.
الموضوع الإقليمي الآخر الذي تطرّق اليه الرئيسان هو سوريا، حيث أبلغ بايدن بوتين أن الولايات المتحدة مهتمة بسوريا ولن تختفي عن المشهد السوري. وقال له، بحسب المصادر، إن إدارته جاهزة للبحث في الموضوع السوري على هذا الأساس.
مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى جوي هود شارك في الحلقة الافتراضية 37 لقمّة بيروت انستيتيوت في أبو ظبي، الى جانب كل من وزير خارجية فنلندا بيكا هافيستو، ووزيرة خارجية السودان مريم الصادق المهدي، ورئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاعية الروسية فيودور لوكيانوف (https://youtu.be/b9ESFE5td0M) . هود حدّد سوريا كمكان وموقع حيث يمكن للولايات المتحدة أن تتعاون مع روسيا بالذات عبر البوّابة الإنسانية.
قال: “إذا اتفقنا على التعاون على الصعيد الإنساني، فقد نتمكّن من إحراز التقدّم على الصعيد السياسي أيضاً، لأن الرئيس بوتين أوضح مراراً عبر السنوات أنه ليس بالضرورة متفانياً dedicated لبشار الأسد كشخص، وأن ما يريده هو تجنّب الفوضى الكاملة في سوريا. ونحن نتقاسم الهدف ذاته في ما يخص عدم الرغبة بالمزيد من الفوضى والمعاناة الإنسانية”. وأضاف أن المطلوب هو “إنشاء دستور جديد، وإنشاء حكومة جديدة تمثّل الشعب حقاً، ولربما عندئذ يمكننا التوصّل الى وسائل تتمكّن من الدفع الى الأمام بالمصالح الأميركية والروسية في روسيا عبر عملية سياسية، ونحن في حاجة الى دعم روسيا لتحقيق ذلك”.
فيودور لوكيانوف أشار الى التعاون الأميركي – الروسي في سوريا عبر العسكريين “الحريصين جداً على عدم الاستفزاز بين الولايات المتحدة وروسيا، وقد نجحوا في ذلك”. لكنه شكّك في تحقيق التعاون على الصعيد الإنساني كما وصفه جوي هود، وقال إن ذلك “من وجهة نظر روسيا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالاعتراف الأميركي الرسمي بدمشق”، إشارة الى الحكومة الحالية بقيادة الأسد. في رأيه أن العلاقة الثنائية الأميركية – الروسية هي الأولوية لموسكو وليس الصفقة النووية أو إيران في سوريا “حيث لنا مصالح مختلفة حتى داخل سوريا كحلفاء هناك، لكن بأجندة مختلفة”. ويعتقد أن مقياس نجاح قمّة بايدن – بوتين هو تشكيل فِرق عمل من الخبراء والجنرالات والدبلوماسيين للقيام “بمراجعة شاملة لمسائل الاستقرار الاستراتيجي”، والبدء بالعمل.
الخلافات الأميركية – الروسية الجذرية تنطلق من اختلاف العقيدة ونظام الحكم. فالرئيس جو بايدن شهر الديموقراطية وحقوق الإنسان في وجه أنظمة الاستفراد بالسلطة وأنظمة الاستبداد والأنظمة الثيوقراطية. أعلن عزمه على تقوية الأنظمة الديموقراطية وإضعاف الأنظمة الثيوقراطية للحكومات الدينية التي تزعم أنها تستمد سلطتها مباشرة من الله، مثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
بايدن صادِق في عزمه على تقوية الأنظمة الديموقراطية، لكنّ نقطة ضعفه تكمن في أنه يتبنّى سياسات تؤدي مباشرة الى تقوية الأنظمة الثيوقراطية، كما يفعل في سياساته نحو إيران. صحيح أن رسالته الى طهران هي: لا تستنتجوا أن صفقة الاتفاقية النووية JCPOA قد تمّت، الى حين إتمامها. لكن الصحيح أيضاً هو أن إدارة بايدن وافقت على استبعاد السلوك الإيراني “الخبيث” عن المحادثات، وسحبت من أيديها أدوات التأثير في ذلك السلوك. فرفع العقوبات في القطاع النفطي عن إيران يوفر لديها الأموال الكافية لتمكين الحرس الثوري الإيراني من توطيد مشاريعه الإقليمية وتعزيزها وتنفيذها. أما حجب رفع العقوبات العسكرية فإنه لا يؤثر في الميزانية الإيرانية، بل في الميزانية الروسية لربما.
وهنا التناقض الخطير في أقوال الرئيس جو بايدن وفريقه وأفعالهما، بالذات في مزاعم التمسك بالديموقراطية وحقوق الإنسان، في حين أن السياسة الفعلية هي تجاهل الأمرين في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الأوروبيون أيضاً يتعمّدون التجاهل ذاته عندما يتعلّق الأمر بإيران، لكنهم يتعصّبون للديموقراطية وحقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بالصين وروسيا – تماماً كما تفعل إدارة بايدن – لغايات المصالح الاستراتيجية.
لكن الاهتمام الأوروبي، المدعوم أميركياً، واضح في ملفات إقليمية معيّنة وبتنسيق وثيق مع دول عربية، كما يحدث مثلاً في ملف سدّ النهضة والخلاف بين السودان ومصر مع إثيوبيا حوله.
وزير خارجية فنلندا، بيكا هافيستو، تحدّث أثناء الحلقة الافتراضية 37 عن انتهاكات حقوق الإنسان في القرن الأفريقي، وهو المُكلّف من الاتحاد الأوروبي ملف سد النهضة. قال إن “دولاً خليجية، بالذات السعودية والإمارات، منخرطتان” في محاولة البحث عن حلول للأزمة المعنيّة بسد النهضة “وإننا نتطلّع الى المزيد من جهود الدول الخليجية في شأن هذه المسألة”، التي يتعاون في حلها كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة.
وزيرة خارجية السودان، مريم الصادق المهدي، شدّدت على دور دولة الإمارات في المساعدة على إجراء المفاوضات. وقالت إن مصر كانت تعارض في السابق إجراء المفاوضات مع إثيوبيا على مرحلتين، لكنها وافقت هذا الأسبوع على فكرة التفاوض على مرحلتين. هذا التعاون الدولي لاحتواء أزمة خطيرة بين الدول الثلاث هو مثال على نوع جديد من الدبلوماسية المتعدّدة الأطراف، بغياب لافت لأدوار الصين وروسيا التقليدية في القرن الأفريقي. فالمقاييس والمعايير والأدوار والأولويات تعيد اختراع نفسها على الساحات الدولية.