إبراهيم العلوش
قالت امرأة حلبية في بدايات القصف بالبراميل: “والله حرام كل كم يوم نطالع غراضنا من الثلاجة ونرحل على غير حارة. والله خربت اللحمة وغراض المونة!” كانت تلك الجملة هي بداية الرحيل السوري.
بعدها صار السوريون يرحلون إلى بيوت مستأجَرة في أحياء أخرى، ولم يعد الرحيل مؤقتًا كما كان لعدة أيام ريثما يتوقف القصف أو يهدأ قليلًا، وبعد تلك المرحلة صار السوريون يرحلون إلى الأرياف القريبة، ثم إلى مدن أخرى، لتبدأ موجة الرحيل إلى دول وقارات أخرى.
وكان الراحلون من حمص ومن دير الزور أوائل من وصلوا إلى الرقة مع الراحلين من إدلب عام 2012، وتحولت المدارس إلى مساكن دائمة لهم، وصار أهل الرقة يقدمون التبرعات والوجبات الجماعية إكرامًا لضيوف المدينة الذين كانوا جميعًا على يقين بأنهم عائدون إلى بيوتهم بعد أيام أو بعد أشهر قليلة، ولم يكونوا يتوقعون أن نظام الأسد بهذا الإجرام والنازية عندما بدأ يرسل جثث المعتقلين إلى ذويهم بشكل متعمد علّه يؤدب الناس ويرجعون إلى بيت الطاعة الأسدية التي رسخها نظام “البعث” خلال نصف قرن من الظلم والعبث بمصير الناس والبلاد.
وعندما أعلنت تركيا أن عدد اللاجئين السوريين فيها صار حوالي عشرة ألاف لاجئ، أعلن معلّقو النظام أمثال طالب إبراهيم، وأحمد الحاج علي، وشريف شحادة، وبسام أبو عبد الله، والشعيبي، بالإضافة إلى بثينة شعبان وغيرهم، أن هذا الرقم مبالغ فيه، وسوريا لا تطرد أبناءها، ولكن تلفزيونات النظام وإذاعاته سرعان ما صارت تروّج الاتهامات الأخلاقية حول نساء اللاجئين وبناتهم، وأنهن ذهبن إلى تركيا للدعارة، متجاهلين القصف والتعذيب حتى الموت ضمن سياسة الإنكار الفولاذية التي لا يزال النظام و”شبيحته” يتمسكون بها.
حاول السوريون العودة إلى بيوتهم فوجدوا القصف لا يزال مستمرًا، والحواجز الإيرانية عند تقاطعات الطرق بالتعاون مع “حزب الله” وأجهزة المخابرات و”الشبيحة” المتعطشين لممارسة نهمهم لتعذيب وإذلال الناس، ونهب ما في جيوبهم، ووجد البعض أعضاء من أجساد أحبتهم الذين ماتوا تحت القصف وهم يحاولون أن يأخذوا أشياءهم قبل انهيار المنزل، ففي تلك المراحل المتقدمة من القصف صار أخذ اللحمة والمثلجات التي تحدثت عنها السيدة الحلبية من الماضي، إذ إن أخذ الأوراق و قطعة الذهب المخبأة للأيام السوداء صار هو الهدف الذي قد يكلّف أحد أفراد العائلة حياته.
نادرًا ما تجد السوري قد اصطحب كل مقتنياته معه وهو يرحل إلى البراري أو إلى المدن والبلاد الغريبة، والمحظوظون هم من رحلوا بشكل مبكر في الأرياف والذين اصطحبوا أشياءهم القليلة وحتى حيواناتهم التي وقفت في “التركتورات” متعجبة من الضجيج والصياح وانقلاب العالم حولها.
غطّت وسائل الإعلام الرحيل المتواصل للسوريين، ورصدت البيوت وهي تنهار فوق أصحابها أو فوق مقتنياتهم التي تركوها بعد أن كلّفتهم تعب العمر، ورصدت رحيل بعض أشيائهم بالسيارات العسكرية والمدنية على أيدي جنود النظام و”شبيحته” الذين طاردوا حتى الدجاج في البرية، لقد شاهد الناس براداتهم وغسالاتهم وتلفزيوناتهم وهي تُعرَض في أسواق بيع المسروقات والمواد المنهوبة على شكل “تعفيش” شرّعه النظام لأتباعه من “الشبيحة” ومن مجرمي الحرب لتأمين تمويلهم من أجل استمرار المقتلة السورية حتى انتصار الأسد.
كلما قرر السوري الرحيل إلى مكان أبعد صارت أشياؤه التي يصحبها أقل، وصار يبيع “الديوانة” والتلفزيون والكمبيوتر بعُشر أثمانها من أجل أن يستطيع الوصول إلى هدفه الذي يبعده عن القصف وعن الدمار، وربما إلى المكان الذي يبدأ فيه حياته من جديد، وهنا برزت ظاهرة الرحيل عبر “البلم” لعبور البحار والقارات، وتضاعفت هذه الظاهرة عدة مرّات ابتداء من عام 2015، حيث فقد الناس الأمل بالعودة إلى سوريا بعد انتشار القصف الروسي الأعمى والوحشي، وانضمام النازية الروسية إلى حفل تدمير سوريا الذي بدأه النظام ببراميله، وبدأته ميليشيات إيران بجرائمها النوعيّة منذ صيف 2011.
يرحل السوريون اليوم من مخيم إلى آخر ومن شقة مستأجرة إلى أخرى يحملون ما جنوه في غربتهم مما يخفف عنهم البؤس والحاجة إلى الآخرين، وصار أصحاب الشقق يتحكمون بحياة اللاجئ السوري في سوريا نفسها، وفي تركيا، وفي لبنان، وفي الأردن، وصار المستأجر السوري عرضة للترحيل في أي وقت ولأتفه سبب، فالسوري الخائن في نظر نظام الأسد، والكافر في نظر الميليشيات الدينية، والضائع بنظر العالم، صار مرمى لكل تجارب العنصرية التي يبتدعها الآخرون.
فهل لهذا الرحيل من مستقر يعيد إلى السوري حياته الكريمة التي طالب بها ونازع النظام من أجلها، هل للسوريين مكان يؤويهم في هذا العالم الذي يترك نظام الأسد يفعل ما يشاء ببلادهم وبممتلكاتهم وبمعتقليهم ويتفنن بتشريدهم؟