نبيل محمد
إذا صادف أن شاهدت فيديو واحدًا مستقلًا من تلك السلاسل المتتابعة التي ينشرها الفنان التشكيلي السوري الذائع الصيت سبهان آدم، دون معرفة مسبقة به، ودون اطلاع على صفحته الشخصية في “فيس بوك” أو موقعه الإلكتروني، فلا يمكنك إلا أن تحكم على ما تشاهد بأنه مادة كوميدية غير ناضجة، أو ترف فارغ، أو اضطراب ما على هيئة فيديو، لممثل يحاول تقليد سلطان أو ملك، يقول عدة جمل غير مترابطة، يحاول يائسًا أن يضبطها بلغة عفوية فلا يكون له ذلك. ستحكم بلا شك على هذا الممثل بالفشل، وستنصحه من خلال تعليق تتركه في أسفل الفيديو بأن يكفّ عن المحاولة، أو على الأقل أن يجد من يكتب له كلامًا ذا معنى محدد، يتسق مع الأفكار التي يريد طرحها، في حال وضوح هذه الأفكار له قبل وضوحها لسواه.
جو مترف غير منظم، أمام طاولة ينثر عليها شموعًا وأزهارًا يابسة، وكأس نبيذ، ومنفضة سجائر فوقها سيجاره العريض، خلفه موقدة مشتعلة أمامها راقصة ترقص تارة وترتب الزهور تارة أخرى، كانت قد لامست عباءته عند مطلع الفيديو، لتدلّنا على عنوان واحد لكل ما يجري، عنوان مطرّز على عباءته يحمل اسمه سبهان آدم، العباءة تلك جزء من لباسه الذي يبدو أنه يقصد منه الظهور بمظهر باذخ، تاريخي سلطاني، بلحية كثّة وشاربين عريضين لا ينفكّ يلهو بهما في أثناء الحديث. ويكتب على صورة عباءته تلك معرفًا عن نفسه بـ”السلطان المشرقي أبو هدلة”.
غزيرة هي تلك الفيديوهات التي يغيّر فيها التشكيلي حلّته بين وقت وآخر، ولا يحمل عناء القول أحيانًا فيترك الصوت لفتاة تقول حكمته بالحياة باللغة الإنجليزية، محاولًا في كل مرة تعزيز الأنا بما يقدّم شكلًا ومضمونًا، والتي يبدو أنها استقرت وقتًا طويلًا على ذلك الزي التاريخي، الذي يتيح له الاستهزاء بكل شيء، من موقع العَظمة، والقدرة على نثر الكلمات أنّى كان معناها، حاملة قيمة استثنائية، من قيمة ناطقها، فمن أنتم؟ ذلك السؤال يوجهه سبهان لمن ينتقده ربما، أو للجميع على سطح الكوكب، من أنتم؟ أمام سبهان القديم الذي يحيك مؤامرة يعجز عن فعلها لورانس العرب و تومرلنك (المقصود تيمور لنك) أولئك الذين هو أعظم منهم وأخطر منهم، وقد منحهم علامة الصفر في الجلاء، فقد ولد قبلهم بألف وخمسمئة عام وربما أكثر، وفق قوله.
لكل فيديو عنوان يبدو أنه ارتجالي، يطرحه سبهان بمجرد بدء الفيديو، ويتيح لنفسه بعده تقوّل ما شاء، وما علينا نحن المستمعين فاقدي المعنى والأثر إلا أن نؤوّل القول، ونقرأ ما بين السطور، وننحني للملك الخلّاق القديم، الذي لا ينحني لأحد، إلا لأنطون مقدسي ربما، الكاتب السوري الكبير الراحل، الذي يسمّيه في أحد الفيديوهات “أبو الثقافة السورية”، وأبوّة مقدسي تلك نابعة بالتأكيد من كونه أول من قدّم سبهان آدم كفنان محترف، وكتب مقالًا عن أعماله، لا من منجز مقدسي وأثره.
كائنات سبهان آدم التشكيلية الحيوانية، والوجه الغريب. جمالية القبح، والشذوذ عن المحترف التشكيلي السوري، والبحث عن الحديث غير المطروق، جعلت سبهان في وقت من الأوقات، حالة استثنائية، استطاعت الحضور بمعارض كبرى في العالم، وبيعت لوحاته بمبالغ باهظة، واحتوتها متاحف كبرى في فرنسا والولايات المتحدة وغيرهما. هذا الاستثناء الذي جاء به سبهان، والذي لسنا بموقع نقده الفني، واستنباط المعاني والرسائل منه، لكنه أتاح للرسام وفق منظوره أن يحرّك الكاميرا لترصد نفثه للدخان، ولعبه بشعره، وامتلاء الكرسي العريض به، عرّابًا فيلسوفًا، عرف في الحياة ما لم يعرفه سواه، يمكنه الحديث عن سوريا والحسكة (مدينته) وعن اللغة والمعرفة، عن الذات والآخر، عن أدونيس، عن الموت والحياة، والطعام والجوع، بمجرّد أن يسأل نفسه، تبدأ كل الفيديوهات بجملة أسأل نفسي، ويجيب دون تحضير مسبق، وهل حَضّرت الآلهة أقوالها ومُثلها قبل أن تلزِم الناسَ بها؟.
“أبو هدلة” فنان ما بعد الحداثة، الذي يرى في “السوشيال ميديا” دولًا هي دولة “الإنستجرام” ودولة “فيسبوك” ودولة “تويتر”، تلك الدول تنضح، وفق مقابلة سابقة معه، بالسخافات والتفاهات، يظهر سبهان في تلك الدول بتجربة استثنائية جديدة له، مشكلتها أنها ولشدّة انعدام المعنى والهوية المحددة فيها، لم تأخذ مكانًا من النقد أو حتى مجرد المتابعة التي يطلبها الفنان دائمًا من جمهوره دونما جدوى.