تعتبر رواية “رسالة إلى مجهولة” للروائي النمساوي ستيفان زفايغ، واحدة من أبرز رواياته من حيث الموضوع، إذ يخرج زفايغ من شخصه وجلده، ليسرد الأحداث على لسان امرأة، فيتقمص الشخصية، ويقدم للقارئ مشاعر المرأة البطلة بموضوعية، ودون مبالغة، ما لم تكن هذه المبالغة حدثًا في حياة المرأة الراوية.
والقضية أن روائيًا مشهورًا أتم للتو عامه الـ41، وصلته رسالة غير مذيّلة باسم، من امرأة عاشقة مجهولة، تسرد له في صفحات الرسالة والرواية تفاصيل ووقائع الحب الخرافي الذي تحسه تجاهه دون علم منه أو دراية.
وفي إحدى السنوات، انتقل الروائي للإقامة في شقة ضمن مبنى تجاوره فيه سيدة وابنتها اليافعة التي صارت عاشقة بمحض المصادفة لجارها الكاتب.
تسرد السيدة تفاصيل نشأة هذا الحب منذ صباها وحتى لحظة قراءة الرسالة، فمرة شاهدت خادم الروائي ينقل أغراض سيده إلى شقته الجديدة، فقدّمت له المساعدة متطوعة، وحين وصلت إلى بيت الروائي وشاهدت ما لديه من كتب وروايات، انتابها الفضول حول الرجل، وتحوّل الفضول بالوهم والإخفاء وبراءة المشاعر إلى حب.
وما هي إلا فترة بسيطة لم يُكتَب خلالها لهذا لحب أن يحيا ويتجسد على الأرض حتى غادرت الفتاة بصحبة أمها للإقامة في مدينة مختلفة ستتزوج فيها الأم.
ولأن هذا الحب لم يتجسد على الأرض، ظل يراوح في مشاعر الفتاة بمحاولة متمردة ليُعاش، ما يدفع الفتاة للعودة إلى مدينتها السابقة حيث ستلتقي بالروائي، وتجمعها به علاقة عابرة لن يتبادلا خلالها الأسماء أو العناوين قبل أن يخبرها الروائي أنه سيغادر في سفر طويل لمدينة مختلفة، ما ينذر بالقطيعة مجددًا.
ظل الحب ناقصًا، تعوزه حياة وتعارف واستمرارية، وهذا ما جعله مهيمنًا على الفتاة التي بدأت تكبر وتكتشف نفسها وصباها وأنوثتها، وهذا أيضًا جعل كل ما يُحكى عن الاكتفاء يبقى هباء، والنتيجة انتظار، ثم لقاء جديد بعد سنوات على شرف المصادفة، سيقود أيضًا إلى علاقة عابرة لا وعود فيها أو أسماء، لقاء تقتضيه الرغبة البشرية، لا رغبة العاطفة.
وأثمرت هذه اللقاءات المتقطعة عن طفل أخفته الفتاة عن والده الروائي، لكنها كشفت عنه في رسالتها بعد وفاة الطفل أصلًا، في سبيل عدم عرقلة حياة الأب وربطه بمسؤوليات لم يطلبها، إلى هذا الحد يصل حبها وعدم مبالاته في نفس الوقت.
وبعد اللقاء الثالث، وفي أثناء مغادرتها منزل حبيبها، تصطدم المرأة على مدخل الشقة بالخادم الأمين يوهان، الذي ساعدته في صباها على نقل بعض الحاجيات إلى شقة الروائي، حيث خُلقت أولى بذور هذا الحب المريض.
جرحتها حقيقة أن رجلًا مسنًا لم تجمعها به سوى لحظات من المساعدة، عرفها بعد سنوات من الغياب، بينما جهلها الرجل الذي أحبته، ما دفعها لعدم ذكر اسمها في الرسالة، فبكل الأحوال لن يعرفه، كونه لم يسأل عن اسمها خلال لقاءاتهما الغابرة.
يحرر زفايغ أبطاله من أسمائهم باستثناء الخادم يوهان فقط، فتجري الرواية على هدي الحدث لا الاسم، فلا حاجة إلى معرفة أكثر من أن هناك رجلًا لا يكترث بحب يحرك فتاة في ريعان الشباب والجمال جعلته موضوعًا لمشاعرها.
وترصد الرواية بالتفاصيل الدقيقية التي تشكّل جوهر أي عمل فني، تفاصيل تطور هذا الحب وتحوله لما يشبه الهوس، لا سيما في ظل إخفائه والاحتفاظ به كسرّ ثقيل يضيق به صدر العاشقة.
تمتد الرواية على أكثر من 50 صفحة، ما يجعلها رسالة مطولة تحاول اختصار سنوات من تيه وحب خُلق وعيش من طرف واحد، وسينتهي بنهاية الرسالة.
“رسالة من مجهولة” تكريس لأسلوب زفايغ في التكثيف وتوظيف التفاصيل ورصد مشهد أو حادثة ووضعها تحت مجهر التحليل والشرح بأبعاده كافة، لتكون بذلك أيقونة أخرى تضاف إلى منجم زفايغ الروائي الذي يضم أيضًا روايات “الخوف” و”آموك” و”أربع وعشرين ساعة من حياة امرأة” وأعمالًا أخرى خالدة.