عنب بلدي – حسام المحمود
أسهم النظام السوري خلال حكم حافظ الأسد، وابنه بشار، في ترسيخ مشاعر الخوف في قلوب السوريين، ولا تزال هذه المشاعر تمارس سطوتها على أصحابها رغم اغتراب ولجوء بعضهم، بفعل انطباعاتهم عن القبضة الأمنية المفروضة داخل سوريا، وتحويل الشعب السوري إلى رقيب على نفسه، من خلال فتح الباب واسعًا أمام تقديم المواطنين التقارير الأمنية التي تودي بمن تستهدفه، وتغيّبه طويلًا أو إلى الأبد.
شهدت الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي أجراها النظام، في 26 من أيار الماضي، في مناطق سيطرته، وفي بعض سفاراته المفتوحة حول العالم، حضورًا لخوف السوريين تجاوز الحدود، إذ شارك بعضهم بالانتخابات، خاصة في الدول التي يمارس فيها النظام سطوته الأمنية عبر حلفائه، مثل لبنان.
ووجد اللاجئ السوري نفسه محاصرًا بخوفين، الأول هو الانخراط في انتخابات تثير توتر السوريين المعارضين الذين تربطهم بالنظام ذكريات سيئة عاشوا بعضها في المعتقلات أو تحت وطأة القصف، ومواطني الدول التي لا تجمعها بالنظام علاقات طيبة، والثاني الخوف من الوقوع فريسة لاضطهاد النظام وأتباعه، وردود فعل انتقامية تجاه أملاك وأقرباء الممتنع عن التصويت (في حال كان خارج سوريا)، أو توقيفه حال العودة إلى سوريا.
وفي الداخل السوري، شهدت الأيام الأخيرة من أيار الماضي وبدايات حزيران الحالي، احتفالات متواصلة ينقلها الإعلام الرسمي السوري، لما يطلق عليه “الاستحقاق الرئاسي”. ورغم الشكوك حول هذه المشاهد الاحتفالية، ودور أجهزة الأمن في دفع المواطنين إليها وإجبارهم على المشاركة فيها، تعكس حالة استقطاب عامة بين السوريين، تتطلب الدراسة.
الاستقطاب الحاد يولّد الخوف
الباحث الاجتماعي السوري صفوان موشلي يرى أن الاستقطاب الحاد حول مستقبل النظام السوري، الذي عكسته الانتخابات الأخيرة، يأتي من عدة أسباب، أولها يتمثل بعولمة الديمقراطية بوصفها النظام الوحيد الضامن للحد الأدنى من الكرامة الإنسانية، والمؤهل لاحترام شرعية حقوق الإنسان، التي تعتبر مناهضتها تجاوزًا لقيم العصر. أي أن النظام السوري مارق، والدعوة إلى إعادة تأهيله تعني استبعاد السوريين من الانخراط في المدنية واللحاق بركب الحداثة، وهذا يكفل استقطابًا حادًا في المجتمع السوري.
ويعتقد الباحث الاجتماعي أن المعارضة تعتبر إعادة تأهيل النظام جريمة، ليس فقط لأنها سكوت عن جرم موثق دوليًا، بل لأنها تثير ذعرًا كبيرًا لدى السوريين الذين يخشون من تكرار هذه الجرائم بحقهم، ولن يسامحوا أو يتسامحوا مع أي جهة مهما كانت مصالحها متطابقة مع النظام إلا بعد إزالة أسباب الرعب والبطش متمثلة بإزالة رأس النظام واستبعاده نهائيًا من الحياة السياسية.
وأوضح موشلي، في حديث إلى عنب بلدي، أن جراح السوريين التي سببها النظام لم تندمل، خاصة مع استمرار النظام مع وعبر حلفائه في ارتكاب المزيد من الجرائم، من قتل وسجن وتعذيب وتغييب وتجويع من لم يستطع الإفلات من موجة البطش العارمة التي رد فيها على المظاهرات السلمية الداعية إلى الإصلاح.
هذه الأسباب تجعل السوريين مستنفرين ضد أي تساهل قد يساعد على إفلات القاتل من العقاب، وهو حرص لا يستدعي الانتقام، بل إيقاف الجرائم المستمرة بالدرجة الأولى، لذلك فإن رفض الانتخابات والمظاهر التي تعزز حضور النظام سياسيًا يعتبر شكلًا حضاريًا لتعاون السوريين مع المجتمعات المحلية والقانون الدولي في ملاحقة داعمي النظام المجرم.
وعن تقديم الشكاوى بحق مرتكبي جرائم بحق السوريين، وأسلوب اللاجئين في اتباع طرق الشكاوى والشهادات في المحاكم، يرى موشلي أن هذا السلوك حضاري بامتياز، لأن السوريين تجنبوا الانخراط المباشر في معاقبة من يعتقدون أنهم مسهمون في الإجرام والدعاية لارتكاب مزيد من الجرائم بحق السوريين.
وقوبل المشاركون في الانتخابات، ومن بينهم مدفوعون بالخوف من النظام، بانتقادات واسعة خارج سوريا، خاصة في لبنان، حيث تدخل معارضون للنظام السوري، وهاجموا موكبًا لمؤيدين للأسد، ما أسفر عن إصابات في صفوفهم.
هستيريا اجتماعية
في المقابل، تعتبر المبالغة في انخراط بعض السوريين في المناسبات التي يفرضها النظام ويسوق الناس إليها، شكلًا من أشكال الهستيريا الاجتماعية، التي يتأثر بها الفرد بصورة غير واعية تدفعه لتبني سلوك ومشاعر لا تعبر بالضرورة عن واقعه، فالحالة النفسية للجماهير ليست نتاجًا لتخطيط مسبق، بل رد فعل قد يصعب تفسير سيطرته على الجماهير بشكل يتعارض مع المنطق، إذ تعكس الهستيريا الجماعية عادة كمية الشحن النفسي المرتبط بالتوتر وسيادة العقل العاطفي، كما يرى الدكتور مجدي إسحاق في كتابه “الثورة من منظور علم النفس السياسي”.
وفي انخراط الفرد في حالة الهستيريا الاجتماعية ضمن المجموعة بما يتعارض مع واقعه وتوجهاته الحقيقية، كنزول بعض السوريين مجبرين للاحتفاء بالانتخابات، تأكيد لنظرية “لوبون” الذي يعلل تراجع السلوك الفردي وسط الجماعة بأن وجود الفرد ضمن الجموع يعفيه من المسؤولية باعتبار أن ذاته تذوب وسط الجموع.
ويؤكد المؤرخ الفرنسي في كتابه “سيكولوجيا الجماهير” وجود بعض الدوافع الداخلية لكل فرد تجد استجابة نتيجة الإيحاء والتأثير من الآخرين، فالمشاعر والأفكار تنتشر بصورة أقرب لانتشار العدوى بين الجماهير كما يقول.
تأثيرات نفسية قد تصل إلى الموت
الدكتور في علم النفس التربوي عامر الغضبان، فسر ما يعيشه السوريون باعتباره “مفهوم الخوف” وليس شعور الخوف، إذ إن هذا الخوف ثقافة وقيم مبنية على عاطفة الخوف، يكوّن الشخص عبرها تصورًا عن الحياة وأولوياته وحاجاته ومصالحه فيها، وهي ثقافة عميقة.
وقال الغضبان، في حديث إلى عنب بلدي، إن “الفرد يعتقد في وقت معيّن أنه غيّر سلّم قيمه وبالتالي غيّر الواقع، لكن النظام السوري أعاد المواطن السوري إلى مراحل متأخرة يحاول معها فهم الطريقة التي يحمي نفسه خلالها، حتى لو لم يكن مهددًا.
وأضاف الغضبان أن الأولوية بالنسبة للفرد هي حماية النفس أمام أي تهديد، وهذا ما يجعل الشخص راغبًا في تسجيل اسمه وتبرئة نفسه أمام السلطة من باب أنه أدى دوره ولا مسؤولية عليه.
وسبق أن وثقت عنب بلدي تهديدات للاجئين في لبنان مثلًا، قبل بداية الانتخابات، للانخراط فيها، أو مواجهة الترحيل وحرق المخيمات أو الخطف.
وتسهم الديكتاتوريات، برأي الدكتور عامر الغضبان، في تغيير قيم عليا يسعى من خلالها الشخص لتحقيق مصلحته القريبة والمؤقتة والمباشرة، ويرى علم النفس السياسي أن الدولة التسلطية تؤدي إلى تغليب سياسة المصلحة.
ويلفت إلى تأثير انفعال الخوف القائم على شعور الإنسان بأنه محاصر وعاجز، وليس أمامه مهرب، فمن الممكن أن يحدث ذلك صدمة عالية الخطورة، أو صدمة عميقة الأثر في الدماغ، وتغيرًا في تركيب الدماغ وإثارة مناطق معيّنة فيه، ما يترك الشخص في صدام مع انفعالاته قد يفضي إلى حد الوفاة.
وحول الصدامات الاجتماعية التي تتولد نتيجة انقسام المجتمعات والشعوب في مسارين مختلفين (فئة عادية وفئة تغلب مصلحتها)، أوضح الغضبان أن الاتجاهات التعصبية محكومة بمكونات معرفية وسلوكية وانفعالية، يسهم اجتماعها معًا بتكوين ميل إلى سلوك معيّن، كالنفور من جماعة بشرية محددة، خاصة في حال وجود ميل مسبق لدى الشخص.
ولا تطفو هذه الاتجاهات على السطح إلا باختبار حقيقي، فلولا إجراء النظام انتخابات رئاسية لما تبيّنت النسبة التي تبحث عن مصالحها بهذا الحجم.
وحذر الغضبان من أن هذا التعارض والاستقطاب يهدد بإحداث شرخ اجتماعي سيزداد اتساعًا ويحتاج إلى فترة طويلة لإحداث تقارب بين المجتمعين والإصلاح بين الطرفين، بعد إعلان شريحة من الشعب عن مواقفها أو ما بدا أنه مواقفها حيال موضوع يثير حساسية شريحة واسعة من الشعب، مع ضرورة التفريق بين الفئات المجبَرة والفئات المختارة في سلوكياتها.
الخوف مستمر
أبرز أسباب استمرار الخوف من النظام السوري، كما يشرحها الباحث صفوان موشلي، هي أن النظام يشكّل امتدادًا للنظام السابق، الذي مارس أشد أنواع القمع، وتنكّر لأبسط حقوق الإنسان على مدى عقود دون أي احتجاج عملي على مسلكه من المجتمع الديمقراطي الحر.
وترى شريحة من السوريين اليوم، أن النظام السوري رغم كل ما يُثار عبر منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية، والتحقيقات الدولية، ما زال خارج إطار المساءلة أو الملاحقة، كما كان سابقًا وربما كما سيبقى مستقبلًا، وسط تجاهل للمجتمع الدولي عن جرائمه.
ويخشى سوريون من تسليم المهاجرين والفارين من هذا النظام، وإعادتهم إلى الزنازين، بحسب موشلي، كما يحدث مع ما تتبناه الحكومة الدنماركية مؤخرًا، عبر نيتها ترحيل أكثر من 100 لاجئ سوري عن أراضيها إلى دمشق، بحجة أن سوريا آمنة، على خلاف الواقع وما تراه بعض دول الاتحاد الأوروبي.
وأغلبية السوريين اللاجئين حول العالم ممن لم يحصلوا بعد على الإقامة الدائمة يواجهون رهاب إعادتهم قسرًا إلى النظام الذي هربوا منه وبسببه، عبر صفقة سياسية، ما قد يودي بحياتهم.
بينما يترسخ لدى السوريين في مناطق سيطرة النظام شعور بأنهم متروكون للبطش، فلا بديل عن التماهي مع المتسلط، كآلية دفاع نفسي عن رغبتهم بالحياة، لذلك يخشى بعض السوريين في مناطق سيطرة النظام من شكّ الأجهزة الأمنية في ولائهم.