فيديوهات “الاعتراف”.. صناعة ديكتاتورية متكاملة

  • 2021/05/30
  • 10:20 ص

منصور العمري

أثار اختطاف النظام البيلاروسي صحفيًا معارضًا ردود فعل دولية شديدة، فاقمها ظهور الصحفي لاحقًا في فيديو قصير يروي فيه “اعترافاته” ويشيد بمعاملة النظام الديكتاتوري له، ويقر بندمه على ما فعله.

مع مشاهدة الفيديو تقافزت في مخيلتي مئات فيديوهات الاعتراف التي فبركها نظام الأسد، ظهر فيها صحفيون ومعارضون، وآخرون لا نشاط لهم حتى، بل اعتُقلوا تعسفيًا وانطبقت عليهم المواصفات المطلوبة للاعتراف.

تستخدم الأنظمة المجرمة، بما فيها نظام الأسد، هذا الأسلوب في تصوير فيديوهات الاعتراف لعدة أغراض، من بينها محاولة برهنة نظرياتهم ومؤامراتهم المتخيَّلة لمواليهم ومن يدعمهم، ولتقديم مواد للإعلام الموالي لها، ولدعم دعايتها في المحافل الدولية. قد تكون فيديوهات اعترافات قسرية أو شهادات ملفقة من قبل مرتزقة أو موالين. تخدم هذه الفيديوهات سردية نظام الأسد المزوّرة، وتُستخدم كأدلة في محاكمه، بما ينتهك شروط المحاكمات العادلة.

التقيتُ عام 2014 بصحفي عمل في قناة “الدنيا” التابعة للنظام السوري، وتحدث لي كيف كان يلقّن فتاة النص المكتوب لها، وتدّعي به اغتصابها على يد معارضين للأسد في فيديو ملفّق. سرّب زميله الفيديو الأصلي الذي ظهر فيه زيف ادعاءات تلك الفتاة.

يتكوّن فريق تزوير الاعترافات والشهادات عادة من الضحية أو المزوّر، والإعلامي العامل في مؤسسات النظام الإعلامية وعناصر الأمن.

استخدم النظام أساليب الترهيب والترغيب في دفع الضحايا للحديث أمام الكاميرا. كانت الوعود بوقف التعذيب، أو إطلاق السراح. كما استخدمت بعض الفصائل المعارضة هذا الأسلوب لتعزيز روايتها وصورتها أمام مؤيديها والمجتمع الدولي.

بموجب قوانين وشروط المحاكمات العادلة، لا يُعتدّ بأي من هذه الفيديوهات أو الاعترافات والشهادات التي تظهرها، ما لم تكن الأقوال مقدمة بطريقة تثبت عدم تعرض المتحدث للتعذيب أو التهديد به. يتطلب إثبات هذا الأمر الشفافية في استجواب المتحدث وشروط احتجازه ومعاملته، من خلال استيفاء شروط الاحتجاز القانونية، بما فيها وصول العائلة والمحامين للمحتجز، والتأكد من سلامته وعدم تعرضه للتعذيب أو المعاملة القاسية أو المهينة.

في الفيديو الذي بثته قنوات حكومية، قال المدوّن البيلاروسي رامان براتاسيفيتش، الذي احتُجز عندما أُجبرت طائرة كان على متنها على الهبوط في مينسك عاصمة بيلاروسيا، إنه في صحة جيدة، وإنه قام بدور في تنظيم احتجاجات حاشدة في مينسك عام 2020:

“أمس، اعتقلني مسؤولون من وزارة الداخلية في المطار الوطني في مينسك (…) أنا في مركز الاحتجاز رقم 1 في مينسك. أستطيع أن أقول إنني لا أعاني من مشكلات صحية في قلبي أو أي مشكلات صحية أخرى. إن موقف الموظفين تجاهي صحيح إلى أقصى حد ووفقًا للقانون. أواصل التعاون مع المحققين، وأعترف بأنني نظمت اضطرابات جماعية في مدينة مينسك”.

أظهر الفيديو علبة سجائر أمامه، في إشارة من مفبرك الفيديو إلى أن الصحفي المعارض يعامَل بشكل جيد، وأنه يستطيع حتى التدخين. رغم ذلك، ظهرت على وجهه آثار كدمات.

نفس السيناريو والعناصر الدرامية استخدمها نظام الأسد بالتركيز على المعاملة الجيدة لإنكار التعذيب، والاعتراف بالجريمة لتثبيت سردية النظام، والإقرار بالندم في النهاية. يسبق هذه الفيديوهات إعداد طويل في بعض الأحيان، يشمل التعذيب أو الوعود بإطلاق سراح المعترف.

قال والد الصحفي البيلاروسي المعارض، إن لغة ابنه لم تكن لغته المعتادة، وكان واضحًا أنه مجبَر على قول ما قاله. يتوافق هذا التعليق مع ما قالته والدة الطفلة روان التي أُجبرت على رواية أحداث جنسية وتعرضها للاغتصاب على التلفزيون السوري، حيث قالت والدة الطفلة إنها تتحدث بغير لغتها المعتادة.

اعتقل نظام الأسد روان حين كان عمرها 15 عامًا، لأن والدها كان أحد قياديي “الجيش الحر”. فيما بعد، بثت وسائل الإعلام الحكومية مقابلة معها، انتهكت حقوقها كطفلة، وأظهرت مرة بعد أخرى مدى نذالة نظام الأسد ومؤسساته الإعلامية.

في أثناء اعتقالي في “المخابرات الجوية” بالمزة وبعدها في “الفرقة الرابعة”، قابلتُ عديدًا من المعتقلين الذين كانوا يتعرضون للتعذيب يوميًا لساعات طوال ثم يُلقون في زنازينهم، تحضيرًا لاعترافهم أمام المحققين والمسؤولين والكاميرات.

في إحدى المرات، دخل أحد المعتقلين الزنزانة مبتسمًا رغم أن الدموع والأتربة كانت تملأ وجهه، وكان جسمه مبتلًا بالكامل. لم ينتظر حتى أن يأخذ نفسًا، بل نطق مبتسمًا “قال لي الضابط إنني أقنعته”.

كان المعتقلون يتعرضون للضرب، ثم يدخلون إلى المحقق الذي يسألهم بالتفصيل عن جرائمهم المزعومة. يجب أن يجيبوا وكأنهم ارتكبوا الجريمة. لكنّ كثيرًا منهم لم يتقن “فن الاعتراف”، ليصرخ بهم المحقق “أنت لم تقنعني”، ثم يطلب من الجلادين أن يأخذوا المعتقل، ويستمرون في تعذيبه وزجه في زنزانته يومًا بعد آخر، كي يحفظ اعترافه ويصبح قادرًا على إقناع من يستمع إليه بارتكاب الجريمة.

ظهر عديد من الناشطين والصحفيين السوريين في فيديوهات اعتراف مفبركة وشهادات أُجبروا عليها وكانت مصممة لتخدم أكاذيب نظام الأسد، كفيديو والد الطبيبة أماني بلور، وفيديوهات أطباء آخرين يدعمون رواية الأسد الكيماوية، التي استخدمها الروس في مجلس الأمن، وفيديوهات اعترافات كثيرين كالصحفي علي عثمان، والصحفي شيار خليل، ومريم حايد، وحازم واكد، وآلاء مورلي، وغيرهم كثير ممن أُفرج عنهم أو لم يُعرف مصيرهم حتى اليوم.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي