حنين النقري
يساهم «صوت المجتمع» في خلق نماذج مستنسخة من أفراده في خياراتهم كافة، ليكون التقليد والسير وفق «الدارج» هو من يتخذ عنهم قراراتهم في معظم خيارات حياتهم، عملًا وعلمًا وزواجًا ومكان إقامة، لكن ذلك لا ينفي وجود أشخاص تميّزوا بقراراتهم، وخالفوا دائرة الأمان المرسومة اجتماعيًا فانفتحوا على ميادين وفرص أوسع، وكان نجاحهم بسبب اختلافهم لا رغمه.
وعن هؤلاء نتحدّث، علّ ذلك يسهم في إماطة جزء من اللثام عن الوعي الفرديّ تجاه الخيارات المصيريّة، لنصل -على الأقل- لرفع القبّعة احترامًا للمختلف، بدل استنكاره.
خارج أبواب التعليم
القصة الأولى ليست وليدة الثورة، لكنها وليدة ظروف قاهرة مرّت بها السيدة منى منذ ما يزيد عن 20 عامًا، عندما أغلقت في وجهها الأبواب التقليدية للتعليم لتفتح لنفسها أبوابًا أخرى من الإبداع.
كانت منى في الثانوية عندما توفّيت أختها التي تصغرها بعامين بحادث سير، ولأنها كانت صديقة الدرب وشريكة الدراسة لم تستطع العودة للمدرسة بعد وفاة أختها، تقول «رغم تفوّقي في المدرسة في ذلك الوقت سببت وفاة أختي لي صدمة كبيرة لم يستطع أهلي التعامل معها، رفضت كل شيء وكانت المدرسة على رأس الأمور التي رفضتها وتركتُها».
مع مرور السنوات اكتشفت منى شغفًا يستهويها، وهو التعامل مع الأطفال، فالتحقت بروضة للتعليم لكنها وجدت أن الخبرات تعوزها للمزيد من الإتقان والتميز، فبدأت بالبحث عن دورات تسدّ نقص خبرتها في هذا المجال، وتضيف قائلة «لم يكن الأمر سهلًا العثور على دورات في مجالات مختلفة، وكان لدي تعطّش كبير للتعلم في هذا المجال، قرأت كتبًا كثيرة في علم نفس الأطفال، وتدرّبت في مركز يضم أطفالًا يعانون من صعوبات في التعلم».
تعاملها مع الأطفال ممن يعانون صعوبات في التعلم صار شغفًا، والأمور التي كانت تبحث عمن يدربها عليها صارت بالممارسة والحب مدرّبة لها بعد قرابة العقدين من العمل، تضيف منى «عندما اكتشفت شغفي بهذا المجال وجدت أنني سأهدر الكثير من الوقت على العودة للمدرسة ونيل شهادة البكالوريا، ومن ثم دراسة الجامعة، اتخذتُ قرارًا صعبًا بشقّ طريقي بنفسي وحرق المراحل، فالأطفال أولى بهذا الوقت».
ولأن الأطفال كانوا أولى لديها من دراستها الجامعية، اليوم تراهم أولى من «سلامتها»، فهي تحرص على البقاء بقربهم في إحدى مناطق دمشق وتختار ذلك عوضًا عن السفر كما يفعل الكثيرون ممن حولها، تقول تأكيدًا على ذلك «إن رحلتُ أنا من سيبقى لهم؟».
الطريق الأصعب
يحيى، بطل قصة أخرى من قصص الاختلاف التي يلخصها لنا، «بينما يختار الآخرون السهولة، أفضل أن أختار الطريق الأصعب؛ فهو وحده ما يصقل مهاراتي ويمنحني التميّز».
ويحيى شابّ عشريني من حمص، وُلد فيها ودرس في جامعتها حتى وقت قريب، يقول «عشنا أوقاتًا صعبة مع شن النظام لحملات عسكرية شرسة على حمص، خرج كل أهل البناء الذي نسكنه ولم يبق سواي أنا وعائلتي لكننا اخترنا البقاء رغم خطورة الوضع، كلّ شخص له خياراته وقدرته على التحمل».
بعد ما يقارب الأربعة أعوام من بقائه في حمص أثناء الثورة والنشاط الميدانيّ فيها، كان يحيى أمام خيارين: إما الالتحاق بالجيش أو الخروج من سوريّا، وكان الخروج خياره، يضيف قائلًا «بالنسبة لي كانت تركيا الخيار الأكثر منطقية من بين كل البلدان المجاورة، ورغم حصولي على فرصة للجوء إلى فرنسا بطريقة نظامية مع زوجتي فضّلت أن أفوّتها علي».
لكن تركيّا كبيرة، والخيارات فيها كثيرة وواسعة، حسبما عرضها الأصدقاء ليحيى، «لديك الجنوب الأشبه بمحافظات سورية إضافية، الجميع يتكلم العربية والبضائع سورية بالإضافة لوجود العديد من المعارف هناك، أيضًا اسطنبول خيار مطروح بوضوح لي كسوريّ لكثرة السوريين فيها، مع وجود عمل وظيفيّ مؤمّن لي أيضًا».
لكن يحيى ألقى بذلك كله، رغبة منه في انتقاء ما يناسبه هو، فعمله في اسطنبول بالكاد سيؤمّن أجار منزل في المدينة السياحية، وبدأ بالبحث عن مناطق لم ترتفع أجارات منازلها بعد، منطقة ساحلية هادئة يستطيع ممارسة عمله على الإنترنت منها دون أية تعقيدات أخرى، يضيف «بالإضافة إلى أن أسعار البيوت في مناطق أخرى بعيدة عن ازدحام السوريين منخفضة بمقدار النصف وأكثر، فإن عدم وجود من يحدثك باللغة العربية سيسهّل تعلّمك للغة التركية، الشرط الأول لاندماجك في المجتمع، وما سيفتح لك أبوابًا واسعًا للدراسة والعمل أيضًا».
اختار يحيى مدينة بعيدة على البحر الأسود، ذهب لمحطة البولمان، حجز تذكرتين لمنطقة بالكاد تمكن من حفظ اسمها واستقل الحافلة في اليوم التالي بين سهول وجبال تركيا إلى منطقة لا يعرف فيها أحدًا.
يقول يحيى «أخبرني كثر عن جنون خياري، راهن آخرون على عودتي إليهم بعد أيام أبحث عن منزل قريب ووظيفة آمنة، لكنّ كل ذلك لم يحصل، استطعت استئجار منزل مميز بكل المواصفات دون وجود من يستقبلني».
أخبرنا يحيى أنه اليوم بعد تسعة أشهر من سفره لتركيا يستطيع إجراء محادثة بشكل جيد دون التحاقه بأيّة دورات باللغة التركية، اكتسب أصدقاءً جددًا ونمّى مهارات عديدة لم يكن ليحتاجها لو توافرت تسهيلات اللغة والمناطق الأخرى، يكسب ما يؤمن له معيشة كريمة من عمله الحر عبر الإنترنت فحسب، ويضيف «أعرف أنني اخترت الطريق الأصعب، لكنه منحني الكثير مما لم يكن ليمنحني إياه درب الآخرين الموحّد».
#الهجرة_العكسية
حملة إعلامية أطلقها الناشط سارية البيطار لنشر قصص شباب سوريّ يسيرون عكس تيار الهجرة اليوم، وهو ناشط سوريّ من مواليد إدلب، هجّر مع أهله في أحداث الثمانينيات إلى بلد خليجي وتابع دراسته الجامعية في الأدرن. يقول سارية إنه وغيره من السوريين المحرومين من بلادهم لعقود لم يفوّتوا فرصة استطاعتهم الدخول لسوريا عند تحرير المعابر، مضيفًا «كانت الحياة مستقرة وغاية في الرفاهية، نعيش أمنًا وأمانًا، ومن الصعب فهم رغبة أحدهم بالعودة والعمل في مناطق تعيش حربًا لكنني أراه واجبًا وطنيًا ودينيًا، هل نترك بلادنا لداعش وللأسد؟».
عاد سارية إلى سوريا ليستقر في الشمال ويعمل في مجال الإغاثة في حلب وإدلب وريفيهما، لكنه نتيجة لتنامي الهجرة السورية إلى أوروبا بشكل كبير، أراد أن يقوم بشيء، أي شيء قد يساعد أحدهم على التفكير بشكل مختلف، فاختار تاريخ 9 أيلول من العام الحالي ليبدأ حملته الإعلامية بنشر قصص الهجرة العكسية، يوضّح عن سبب اختياره لهذا التاريخ، «اخترت أن أبدأ بالنشر في ذكرى استشهاد صديقي حسان سفلو، إدلبيّ مولود في مكة استشهد بتفجير مع قادة أحرار الشام، بعد أن دخل سوريا ليشارك في ثورتها».
يرى سارية أن الثورة تمرّ بوقت حرج، فالحلول السياسية لم تؤت أكلها، وأمد الثورة يطول والبعض بدأ بالتململ، ويضيف «الشباب يرغبون بإتمام حياتهم، دراستهم، تأمين مستقبلهم، وليس بوسعي تحسين الظروف وإقناعهم على البقاء، كل ما بيدي نشر قصص لأشخاص ضحوا بحياة مثالية ليخدموا بلادهم وأهلهم، عل هذه القصص تثنيهم عن الهجرة».
من القصص التي نشرها سارية على صفحته على الفيسبوك قصة صهيب، الذي ترك دراسته الجامعية في ماليزيا ليعود إلى سوريا ويشارك بالحراك السلمي والمظاهرات، يكمل سارية «صهيب اليوم يعمل في الشمال السوري، أسس العديد من الفرق التطوعية ولا زال حتى اللحظة يحمل عبئًا كبيرًا في حلب وإدلب»
يتمنى سارية أن يتمكن من التعاون مع جهة ما تترجم هذه القصص إلى اللغة الإنكليزية، «أريد أن يقرأ الغرب أن السوريين ليسوا كلهم يرغبون بالهجرة إلى أوروبا عبر البحر، أن يقرؤوا قصص أشخاص تركوا حياة هانئة آمنة ليساعدوا بشتى المجالات، أتمنى أن تتحول هذه القصص لظاهرة هجرة عكسية لسوريا، في النهاية لو أثنت هذه القصص 10 سوريين فحسب عن المخاطرة بأنفسهم في البحر والهجرة إلى أوروبا لكفاني هذا، لا يمكنني أن أرى أهل بلدي يغرقون في البحر دون أن أحرك ساكنًا».