عنب بلدي- صالح ملص
اعتاد السوريون انتشار تماثيل وصور رموز السلطة الحاكمة في البلاد منذ 50 عامًا بمختلف الشوارع والمدن، لتكون وسيلة بصرية تخاطب الجمهور بشكل يومي من أجل تثبيت حكم شخصيات السلطة وتمجيدها في عقلية المجتمع، فيكون الخوف والإجبار هو مصدر شرعية الحكم في دولة غير حرة مثل سوريا، فالسياسة ليست فقط الصراع على السلطة المادية، بل هي أيضًا منافسة حول العالم الرمزي وحول إدارة المعاني والاستحواذ عليها.
هذه العلاقة بين السلطة والمجتمع المبنية على الإكراه والطاعة خوفًا من سلب الحقوق الأساسية، تظهر بوضوح عند أي حدث أو مناسبة وطنية، فيتحول الانتماء عند شريحة واسعة من الأفراد بالمطلق إلى شخصية رئيس نظام الحكم، ويبقى الوطن بجميع ثقافته ومؤسساته وهويته لدى أولئك الأفراد خارج المشهد.
جدد مؤيدو رئيس النظام السوري، بشار الأسد، دعمهم له بالتزامن مع إقامة الانتخابات الرئاسية السورية، ولكن لم يتوقف هذا الدعم على شعارات وخطابات التأييد، إنما وصل إلى مبالغات في تأليه شخص الأسد نفسه.
وانتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي تسجيل مصوّر لتجمّع مؤيد للنظام السوري، هتف خلاله الأفراد “هي ويلا بشار هو الله”، وفي خطبة عيد الفطر في الجامع الأموي بدمشق، التي حضرها الأسد، في 13 من أيار الحالي، شبّه الشيخ حسام الدين فرفور الأسد بأنه “يتخلق بأخلاق الله”، بسبب إصداره “عفوًا عامًا” عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 2 من أيار الحالي.
عوامل تنتج بنية تقديس الحاكم
عوامل أمنية واجتماعية وثقافية واقتصادية تؤثر في وجود فكرة تأليه الحاكم في سوريا، يضاف إليها طريقة استجابة المجتمع لهذه الفكرة.
تعتبر فكرة تأليه السلطة من سمات المجتمعات المحكومة من قبل أنظمة ديكتاتورية، إذ تؤسس السلطات الديكتاتورية لنمط شخصية ترى في السلطة والحاكم نموذجًا لا يوجد بديل له، وفق ما يراه الباحث الاجتماعي السوري حسام السعد في حديث إلى عنب بلدي، وتتنوع الدوافع حول ذلك، منها عدم تجربة المجتمع لنمط حكم آخر، بحيث يرى الناس أن هذه السلطة أو الحاكم هما النموذج المثالي لإدارة سياسة الحكم في الدولة.
وبالتالي فإن من النادر ما يرى الناس تمجيدًا لشخصيات عامة تاريخية في سوريا، لأن التمجيد يتجسد بشخصية الحاكم، وبذلك فقدت أي شخصية سورية أخرى هيبتها التاريخية بعد أن فقدت أي رمزيات ممتدة إلى الحاضر.
وبدأت هذه الحالة حين أنتجت السلطة في سوريا خطابًا يرمز إلى قداسة وبطولة القائد المستمرة، بالإضافة إلى ارتباط مجموعة من الأفراد أو طائفة معيّنة أو مجموعة متنفذين، يستفيدون من وجود السلطة على ما هي عليه، بحسب ما أوضحه الباحث السعد، فيعملون على إنتاج “بروباغندا” سياسية بطابع القداسة.
وتشعر هذه الطائفة أو مجموعة الأفراد التي تلتف حول السلطة أن زوال الحاكم يعني بالضرورة غياب الميزات الإيجابية التي تحصل عليها بسبب انتمائها لصف الرئيس، وتخاف من الانتقام منها في حال تم التغيير، وهذه مبرراتها وليست حقيقة بالمطلق.
فعندما تولى حافظ الأسد السلطة رئيسًا عام 1971، جاء في عهده الكثير من العلويين من الأرياف لتقوية مواقعهم في السلطة، وفق الباحث السعد، وحاول أيضًا أن يعطي بعدًا علمانيًا أكبر في حكمه، لأن ذلك يخدم في استجلاب دعم وولاء الأقليات الأخرى.
والطبقة المحيطة بالحاكم تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية في توليد هذا الإحساس ضمن الفضاء العام في المجتمع، وذكر السعد في حديثه الرموز الثقافية المجتمعية أيضًا، التي من مصلحتها بقاء السلطة وبنية الحياة السياسية على وضعها الحالي من دون إحداث أي تغيير.
وتعمل السلطة على استمالة وجذب قادة المجتمع المحلي المؤثر، وفق الباحث الاجتماعي السعد، فتترافق شخصنة السلطة مع إنتاج أشخاص هم الذين يشكلون عصب مشروع تأليه الحاكم، ينشغلون بتقديسه عبر وسائل الإعلام، بتضليل وتزييف الحقائق واختراقات لا تحصى ولا تعد لمعايير المهنية، عبر طرح وجهة نظر واحدة تخدم بقاء السلطة وتبرز إنجازات “خلّبية”، مثل أن يجتهد النظام بنشر روايات عارية عن الصحة لتبرير استمراريته ونفوذه في الحكم، مثل كونه يمثل الشعب ويحكم بقبول شعبي، وأنه الوصي على الوحدة الوطنية والتطلعات القومية العربية، وأنه “صخرة صمود ضد الإمبريالية الغربية والتوسعية الإسرائيلية”، وبذلك يقوم بإقصاء أي رأي آخر حتى ولو كانت فيه فائدة للمجتمع.
يبرز تأليه السلطة بغياب القانون
عبودية السلطة في سوريا تعتبر معادية لكل حرية أو تحرر، وبالتالي فهي تشيطن كل طرف يعارضها، وتعمل على عزل مجتمعها عن أي مجتمعات أخرى، كي تبني دولة كاملة تنحاز بكل مبادئها إلى أهداف السلطة، بعيدة عن سيادة القانون واحترام الحقوق.
وليس من السهل تطبيق مبدأ سيادة القانون في سوريا، إذ إن البيئة الأمنية تحاصر هذا المبدأ منذ تولي حزب “البعث” السلطة في السبعينيات، وأسهمت هذه البيئة بتقويض الحياة الحقوقية من خلال حالة الطوارئ التي رُفعت بعد الاحتجاجات عام 2011، التي كان من أبرز أسبابها غياب تطبيق عدالة قانونية تحمي الحقوق والحريات.
ووجود سلطة تسن التشريعات دون ضوابط أو معايير أو مراعاة لقوى سياسية أو مجتمعية في الدولة مع انعدام الرقابة الدستورية، وذلك بحكم الدستور السوري الحالي الذي صدر عام 2012، فبموجبه هيمنت السلطة التنفيذية على السلطة القضائية في الدولة، وتسلّطت على جميع مجالات الحياة في سوريا من خلال أجهزة أمنية مرهوبة تُعرف باسم المخابرات.
حالة مرَضية.. ما العلاج؟
ظاهرة تقديس الحاكم هي حالة مرَضية في وقت تنتشر فيه الحريات العامة في بلدان العالم، وفق ما يراه الباحث الاجتماعي صفوان موشلي في حديث إلى عنب بلدي، فهي “نوع من العصاب”، وهي نوع من أنواع الخوف الذي يؤدي إلى اضطراب في الشخصية والتوازن النفسي، وتندرج تحت هذه الآلية المرَضية “أسطرة” وتقديس الأشياء والأشخاص في سياق إشباع دوافع نفسية غير واعية.
ولا يعدو تأليه الأشخاص في بيئات يسودها الخوف أو الحب المرَضي إلا نوعًا من أنواع العصاب، وفق الباحث موشلي، فالعصاب مرض نفسي يصيب المجموعات الاجتماعية أو مجموعة من الأفراد في مجتمع ما، إذ يعاني مريض العصاب من رهابات مرتبطة بالتنشئة، تعززها بيئة تتصف بتعميم القمع أو الخوف.
كما تسهم البيئة المتصفة بارتفاع شدة الضغوط الاقتصادية والاجتماعية بأنها بيئة مؤهبة لظهور العصاب، بحسب ما أوضحه موشلي، فتحت وطأة هذه الضغوط يفقد المريض القدرة على السيطرة على تلك الضغوط، وينهار تحت رهاب الحاجة وانعدام المكانة والتقدير الاجتماعي، فيلجأ المصاب بهذا العصاب إلى حلول وهمية عبر تفسير خرافي لمعاناته، ويدخل في أوهام أسطورية يتوسل إليها كي تقيه الانكشاف أمام نفسه وبيئته على السواء.
وقد ينال العصاب من مجموعة اجتماعية كاملة تعيش القهر الذي يسحق أفرادها، ما يجعلها تميل بشك جمعي لتبني الخرافة وانتظار مخلّص أسطوري، هذه الحالة بمثابة “تعلق الغريق بقشة”، وفق تعبير الباحث صفوان موشلي.
وكلما زاد القمع في الدولة ازداد الميل لتبنّي حلول أسطورية، لتعويض العجز الناتج عن القمع السياسي وضغوط الإفقار التي تمارسها سلطات الاستبداد، وما ينتج عنها من الشعور بالدونية وفقدان الأهلية والمكانة.
فالعصاب الفردي والاجتماعي على السواء يدخل مرضاه في دوامة معقدة، وفق ما ذكره الباحث موشلي، فهو من جهة نتاج جانبي للقهر المتولد من نظام القمع والاستبداد السياسي والأمني، ومن جهة أخرى يشكل الرضوخ وفقدان المبادرة والعجز الناتج عن التماهي بالمتسلط الذي يمارسه مجتمع العصاب.
ولا يجب أن يتم تغافل تغذية النزعة السادية التي أنتجتها السلطة القمعية في سوريا، من خلال ارتكاب جرائم انتهاك بحق الخاضعين لسلطاتها، بطريقة بشعة بأغلب الأوقات، وفق موشلي، ويعد ذلك انحرافًا عن عمل السلطة الطبيعي في مجتمع ما.
وفي المقابل، هناك أشخاص منتمون للسلطة لا يكفون عن التطلع إلى المدح والتقدير لإشباع نرجسية مرَضية هم أيضًا يعانون منها دون إدراكهم لهذه المشكلة النفسية، فلن يتوقفوا عن طلب مزيد من الإعجاب والافتتان فيما تقول وتعمل حتى تصبح هذه السلطة منفصلة عن الواقع تمامًا، إذ ترى نفسها كليّة القدرة ومقدسة، و”تعيش سوريا حالة مثالية لإنتاج آلهة بين البشر”، وفق ما يراه موشلي.
ومنذ وصول حزب “البعث” إلى السلطة في سوريا، ركّز الأسد الأب طاقته كلها على أن يكون مركز السلطة، وحفر داخل أدمغة الأفراد في المجتمع السوري، بأن مصير سوريا من مصير النظام نفسه، حتى ارتبط اسم الأسد باسم الدولة لغويًا وواقعيًا، لتكون “سوريا الأسد”.
وفي عهد الأسد الأب، كانت تخرج المسيرات المؤيدة وتهتف الأصوات خلالها “يا الله حلك حلك، تحط حافظ محلك”، وحتى عند وفاته، هتفت الأصوات في جنازته “يا الله اتهنى اتهنى، حافظ عندك مو عنا”، باعتباره “الخالد خلود الحياة على وجه البسيطة”.
وتعتبر عبادة الشخصية هي البديل الضروري لكل سلطة فقدت الشرعية، ضمن بيئة اجتماعية مضطهدة ومقهورة ومضطربة في نفس الوقت، وفق موشلي، الذي يرى أن التخلص من هذه الحالة المرَضية هو مسؤولية المجتمع أولًا في وعيه وإدراكه لهذه المشكلة واختيار نظام ديمقراطي، فجميع الأنظمة غير الديمقراطية تتجه نحو الاستبداد دون استثناء تحت حجج مختلفة.
ومع بداية الثورة في سوريا عام 2011، تحطمت التماثيل التي مجدت الأسد الأب والابن، لتعود سيادة المجتمع على الرموز السياسية التي طغت هيمنتها في ماضي المجتمع، ليحاول الذين عارضوا النظام السوري تبنّي صورة جديدة ترسم واقعهم السياسي والاقتصادي والاجتماعي كما يعتقدون أنه مناسب لهم، فبدأ جزء من المجتمع الإحساس بنفسه، وتحرره من ماضٍ محمل برموز الإكراه والخوف.
ولكن ما زالت السلطة في سوريا تصر على إعادة تكريس هيمنة شخصياتها وغرس قدسيتهم في المجتمع، لتمتد هذه الفكرة إلى أجيال سورية جديدة، فبعد استرجاع قوات النظام السوري بعض المدن المدمرة التي كانت تسيطر عليها المعارضة، كان التمثال أول ما حرصت على إعادة إعماره، ليكون وحيدًا وسط دمار البيوت وانعدام الحركة السكانية في المدن.