كتاب “الرسائل”.. الوطن وهمومه بين أوراق القاسم ودرويش
“إن ذلك البقاء الأول هو الذي حمى الوطن من التلاشي، وإن الداخل هو القوة المادية للهوية الوطنية الثقافية، وإن للداخل اسمًا يفوق السحر، لأن الداخل هو الذي وفّر للقضية الفلسطينية قوة المعجزة”.
بهذه الكلمات التي قالها عام 1987، يعبر الشاعر الفلسطيني محمود درويش، عن قيمة التشبث والعناد حين يرتبط الأمر بالأرض، مشيرًا إلى أن البقاء الأول أسهم في استمرار البقاء، وقد يفضي إلى البقاء النهائي والأخير.
قال محمود درويش ذلك خلال رسائل متبادلة بينه وبين الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، وجُمعت هذه الرسائل المكتوبة للقارئ، كما يعترف الشاعران، في كتاب واحد حمل اسم “الرسائل”.
وينتمي الكتاب كما يوحي اسمه إلى أدب المراسلات، وهو نوع أدبي ظهر في القرن التاسع الميلادي باسم “أدب المكاتبات”، وانقسم إلى المراسلات الأدبية، والمراسلات الأهلية بين الأقارب والأصدقاء لتبادل الأشواق عبر الورق، والمراسلات العلمية.
وتركز مواضيع المراسلات الأدبية عادة على القضايا التي تتجاوز الكاتب والمتلقي الأول، إذ يأخذ كاتب هذه الرسائل بالحسبان أنه يخاطب أكثر من متلقٍّ في نفس الوقت، وهذا ما يجعل أدب المراسلات والرسائل الأدبية ميالًا إلى الطرح الجمعي، والاتكال على “واو الجماعة” والهروب من الذاتي بإسقاطه على الآخر.
في هذا الكتاب يتبادل شطرا (شقّا) البرتقالة الفلسطينية، كما يسميها الكاتب إميل حبيبي، أكثر من 40 رسالة تتأرجح بين القول والرد، والسؤال والجواب، وإن كانت أسئلة سميح القاسم أكثر قلقًا وتعبًا وشكوى، فإن ردود درويش على تلك الأسئلة أو الهواجس أو التساؤلات لم تكن حاسمة، ومطعمة بالشك والحيرة.
وردًا على رسالة “والدكتاتور” التي كتبها سميح القاسم، وتفوح بالشكوى وغبطة البعيد، هذا الحسد الخفيف النقي لمن لا يتشارك معه لعنة البقاء في الوطن، يقول محمود درويش في رسالته “اضحك ابكِ”، “أود تنبيهك إلى أننا لسنا الوحيدين في حديقة الأسى والتراشق بالياسمين هذه (…) إن حشدًا كبيرًا من الناس يزيح الستائر ويطل من النوافذ المحيطة بنا منتظرًا ساعي بريدنا الخاص”.
وتتنوع المواضيع في الرسائل التي تسمو وتغص بترف مناقشة القضايا الوجودية العميقة، ثم تنزلق إلى البسيط والعادي، ونمنمات الحياة الحاضرة بين عينَي من يعيشها.
وتشكّل القضية الفلسطينية والهمّ الفلسطيني الأرضية الخصبة التي تنبت في بيئتها هذه الرسائل، فشجرة الخروب هي الوطن، والريح من الوطن، والمجزرة والقتل والشرطة والتدخين والشتاء والشقاء، وحتى الدكتاتور صار طابعًا ووجهًا بائسًا للوطن.
شبّه إميل حبيبي هذه الرسائل بأنها “مشي حجلان كبيرة تسير وراءها أفراخها قاطعة بأمان، عرض شارع معبّد بالزفت والقطران”.
وسخّر كل من درويش والقاسم خبرتهما الشعرية في إغناء نصوص الرسائل بالصور والمعاني وتفاصيل المواضيع التي تشكّل جلّها، ما يجعل منها ذخيرة لغوية ضخمة تتلاقى فيها مفردات اثنين من أكبر شعراء فلسطين، إضافة إلى توابل الرمز والأساطير التي يعتمد عليها محمود درويش لقول ما لا يقال، بطريقته الخاصة.
صدر هذا الكتاب عام 1990، وتدور الرسائل المتبادلة في الثمانينيات، حين كانت القضية الفلسطينية ساطعة البريق لدى العرب، ولم تدخل في دوامة الغرق بالمشكلات الفردية، التي يغيب فيها القومي على حساب الوطني.
ورغم وضوح التعب المغطى بالغضب في لغة سميح القاسم بناء على قراءة مرحلة فاترة من حياة فلسطين، فإن أملًا ما يطغى على الرسائل ويشير إلى نصر وحياة جميلة قادمة من بعيد.
ولد محمود درويش في قرية البروة قرب عكا، عام 1941، واتجه بعد حصوله على الشهادة الثانوية إلى ممارسة العمل الصحفي حتى عام 2002.
توفي درويش عام 2008، وفي رصيده 27 ديوان شعر مطبوعًا صدر أولها عام 1960، بالإضافة إلى 11 كتابًا في النثر، وهو واحد من أبرز الشعراء العرب المعاصرين.
وجمعت بين درويش والقاسم صداقة عميقة بدأها الشاعران أيام شبابهما الذي عاصرا خلاله وجمعتهما صداقات بأبرز الشعراء العرب، مثل نزار قباني، وعبد الرحمن الأبنودي، وأحمد فؤاد نجم.
سميح القاسم المولود في الأردن عام 1939، هو أصلًا من قرية الرامة في الجليل الأعلى، شمالي عكا، واشتغل بالسياسة والصحافة، وصب اهتمامه على شعر القضية والمقاومة.
وصدر لسميح القاسم أكثر من 73 كتابًا في الشعر والمسرح والمقالة والترجمة، وتُرجمت بعض قصائده لأكثر من 14 لغة.
يتكون كتاب “الرسائل” من 214 صفحة، موزعة على ثلاث حزم، وتشكّل في مجموعة قطعًا أدبية خالدة تضاف إلى أرشيف القضية الفلسطينية التي تحافظ على حضورها وتهرب من الماضي بالمضارعة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :