الرقة – حسام العمر
جالسًا على كرسيه الخشبي ومشرفًا على أطلال منزل عائلته الطيني بشارع المعتز وسط مدينة الرقة، أحصى حامد ذكرياته، التي لم يتبقَّ له منها سوى الكرسي المصنوع من الخيزران.
حامد المهاوش، رجل في السبعينيات من عمره، تحدث لعنب بلدي عن ذكرياته هو وعائلته في منزلهم الطيني، الذي هدمته العمليات الحربية التي شهدتها المدينة خلال السنوات الماضية.
تعرضت منازل أحياء الرقة القديمة لدمار شبه كامل، بعد أن عجزت عن الصمود أمام القصف الذي طال المدينة، خلال فترة سيطرة المعارضة عليها، ومن ثم تنظيم “الدولة الإسلامية”.
عدم قدرة مالكيها على ترميمها تركها لتختفي تدريجيًا من الرقة، بعد أن لجأ كثير من أصحابها أو ورثتهم لإزالة بقاياها وإنشاء المباني الطابقية مكانها.
منازل من العهد العثماني
عند تجوّل الزائر في شوارع الرقة وحاراتها المحيطة بالمتحف اليوم، يتفاجأ بوجود بقايا منازل صُنعت من الطين، ما زالت تحافظ على بعض وجودها بين الأبنية الأسمنتية التي ملأت المكان.
تنهمر الدموع على وجنتي حامد وهو يقول، “أخ يا عمي لو تعرف كم لعبنا أنا وأخوتي بهذا البيت، وكنا ننتظر أبانا ليرجع من عمله هنا”، ويشير بإصبعه إلى طرف بقايا المنزل المهدم.
حامد قال إن أبناءه الأربعة اتفقوا مع أحد مقاولي البناء على إزالة بقايا المنزل القديم وإنشاء مبنى طابقي مكانه، لكنه رفض وطلب تأجيل المشروع إلى ما بعد “مماته”.
أُنشئت المنازل الطينية وسط مدينة الرقة، بعد تأسيسها الحديث أواخر فترة العهد العثماني، حين أُقيمت البلدية والمخفر العثماني والسوق الشرقية.
تأسيس المدينة من جديد جاء على أنقاضها التي تعود إلى زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد، بعد أن دُمّرت بشكل شبه كلي خلال فترات الغزو المغولي.
وتتألف الرقة “الجديدة” من عدة حارات، هي حارة البكري والحسون والبليبل والبياطرة، التي شكّلت بداية القرن الماضي النواة الأولى لتحول سكان الرقة من المجتمع العشائري الزراعي إلى المدنيّة والمدينة.
منازل البيئة الفراتية
إسماعيل المهاوش (35 عامًا) ابن حامد، يرى أن الحفاظ على بقايا المنزل بلا فائدة مع عجز العائلة عن ترميمه أو الحفاظ عليه.
وأضاف الشاب أن الحرب السورية “نسفت كل الذكريات وأصحابها”، وبرأيه لا طائل اليوم من الحديث عن تلك الذكريات، إلا أنه ينوي مع إخوته احترام رغبة والدهم والإبقاء على المنزل، على حد قوله.
أُنشئت المنازل الطينية من المواد المتوفرة في البيئة الفراتية، مثل الطوب الفخاري والطين والقصب الفراتي والأعمدة الخشبية، حسبما قال الباحث بالشأن التاريخي للرقة محسن العلي، وهو أحد العاملين السابقين في مجال الآثار.
وأضاف محسن، في حديث إلى عنب بلدي، أن هذه المنازل صارت “مهددة بالاختفاء كليًا من المدينة”، لعدم قدرة أصحابها على إعادة ترميمها أو رغبة منهم في تشييد الأبنية الحديثة مكانها.
ولا توجد إحصائية دقيقة لعدد تلك المنازل أو مساحتها، لكن أغلبيتها تقع بمحيط متحف المدينة الذي أُعيد ترميمه مرات عدة، وتملكها عائلات الرقة القديمة.
عجز المسؤولين عن الحفاظ على المنازل
تواصلت عنب بلدي مع “لجنة الثقافة والآثار”، التابعة لـ”مجلس الرقة المدني”، وقال أحد أعضائها، الذي تحفظ على ذكر اسمه لأنه لا يملك تصريحًا بالحديث إلى الإعلام، إن “اللجنة” لا تستطيع منع إزالة تلك المنازل لأنها ملك خاص لأصحابها وهم أحرار بالتصرف بها.
وأشار العضو إلى أن “اللجنة” عملت على ترميم بعض الأبنية العامة، “التي تمثل الإرث الثقافي والتاريخي للمدينة”، مثل متحف الرقة و”قصر البنات” وأجزاء من سور الرقة، حسبما قال لعنب بلدي.
وحاليًا يتم ترميم الجامع الكبير، الذي يتجاوز عمره مئة عام، وتزامنت فترة إنشائه مع فترة بناء المنازل الطينية.
وتحوي مدينة الرقة العديد من المواقع الأثرية العباسية، التي وضعتها “منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة” (يونسكو) ضمن القائمة المرشحة للتصنيف كمواقع للتراث العالمي، في حزيران عام 1999.
وكانت منظمة “RehabiMed” أعلنت، في تشرين الثاني من عام 2020، عن إطلاق مشروع “توثيق وحماية التراث الثقافي في الرقة”، واقترح المشروع تشكيل فريق من الخبراء المحليين ليقيّم وضع الآثار وحالتها وأولويات الإصلاح، إلى جانب توعية السكان بأهمية الحفاظ على الآثار لقيمتها التاريخية والثقافية.