يبدأ المشهد الأول من مسلسل “حارة القبة” الذي يعرض خلال الموسم الرمضاني الحالي بسرد قصصي على لسان الممثل عباس النوري، ليصف حالة النفير العام الذي أُعلن بموجب فرمان عثماني صادر عن السلطان محمد رشاد، لإلحاق الرجال بين 15 و45 عامًا، من رعايا الدولة العثمانية العرب، بصفوف قوات الجيش العثماني خلال الحرب العالمية الأولى (1914- 1918).
اقتيد المجندون حينها إلى جبهات القتال في الحرب بداية من مصر ثم إلى أوروبا والقوقاز، وكان الشباب يعدون الانضمام إلى الحملات العسكرية وداعًا دون رجعة.
يعيد المسلسل سرد أحداث تلك الحقبة التاريخية، لكنه يحملها بالسياق العام والمتغيرات السياسية للعلاقات بين تركيا وسوريا، بلد تصوير وإنتاج المسلسل، بلهجة حادة وخطاب موجه ضد الحرب والداعين إليها في ذلك الوقت.
ويتخذ العمل الذي أُنتج عام 2021 من حرب جرت عام 1914 ومن الـ”سفر برلك” الذي جرى فيها أرضية زمنية لأحداثه، متجاهلًا “سفر برلك” النظام السوري، الذي اقتاد آلاف الشبان السوريين عام 2011 إلى حرب لم يعد بعضهم منها حتى جثث أحيانًا.
وسرعان ما تتراجع وطأة وحضور الحرب في العمل بمجرد بروز العنصر النسائي الذي يتصدّر البطولة وتحريك الأحداث أيضًا، ويزيح الأيديولوجيا جانبًا، فخروج “فطمة” عن تقاليد “حارة القبة” بلقائها “عمار” على سطح منزلها، كان الحدث الأبرز الذي ستُبنى عليه أحداث المسلسل.
وتسعى “أم العز” بعد معرفتها بعلاقة ابنتها بالشاب الجار الذي يفصله عن حبيبته سطح مشترك أُقيم فوقه جدار حفر الحب فيه فجوة لتلتقي عيون العاشقين، للسيطرة على شبح المصيبة الذي تستشعر قربه، وتحاول ركله إلى أيام لا تأتي.
هذه الأم المسكينة بصبرها وعنفوانها وطاقتها التي هدرها الخوف، تستميت في سبيل ترويض الفضيحة المتربصة بابنتها، مع دفع أثمان باهظة كخسارة طفلها الصغير، وخسارة عقلها بعد موت الطفل، وتعرضها لمحاولة اغتصاب قبل الخسارتين.
ويتميز الأداء النسائي في العمل، خاصة في شخصية “أم العز” التي أدتها سلافة معمار، بما يؤكد قدرة بطلاته على الإطاحة بصورة “العكيد” و”الزعيم” التي استهلكت وفقدت بريقها، خاصة عند إسنادها إلى ممثلين لا يتلاءمون مع خصائص مثل هذه الشخصيات الدرامية.
https://www.youtube.com/watch?v=-Dzv1KICZcI
يعيد “حارة القبة” صياغة المفاهيم التي قدمتها الدراما الشامية خلال العقد الأخير بما ينسجم والموقف السياسي للنظام السوري من تركيا.
وبعد العديد من الأعمال الدرامية التي صوّرت العثمانيين بحيادية، وقدّمت أخطاءهم باعتبارها حالات فردية تصححها قياداتهم، حين كانت العلاقات السياسية بين سوريا وتركيا طيبة، مقابل التركيز على بطش وطغيان “الفرنساوي”، يحاول “حارة القبة” إلقاء اللوم أولًا على تلك القيادات التي برأها في مسلسلات سابقة، مثل “أهل الراية”.
ويشبه ذلك سكوت النظام السوري عن قضية لواء إسكندرون منذ توليه السلطة عام 2000، ثم عودته للحديث عنها بعد انحياز أنقرة للثورة السورية، وفي الوقت الذي خسر فيه السيطرة على مساحات واسعة من البلاد جراء محاولته تطويع المدن السورية بالحديد والنار.
وكان أحد أعضاء مجلس الشعب السوري عبّر عن الفكرة خلال إحدى جلسات مجلس الشعب السوري، بينما خرجت تصريحات متكررة من مسؤولين سوريين حول “إعادة” اللواء إلى سوريا بعد عام 2011.
وما عدا ذلك، فالعمل يحاكي القيم النبيلة التي تركز عليها أعمال البيئة الشامية، فنجد عباس النوري (أبو العز) صائنًا للأمانة رغم ما يواجهه من أعباء في سبيل حفظها، ومتمسكًا بها أمام مكايد “غازي بيك”، كما تمسك بها حين كان “المعلم عمر” في “ليالي الصالحية”، ووقف بوجه ابن عمه “المخرز” بانتظار نصف “زبدية صيني” تعيد الحق لأهله.
شركة “عاج” التي أنتجت جزأي “باب الحارة” الأول والثاني، كما تعرّف بنفسها في مطلع الشارة، أنتجت بعد غياب عشر سنوات، المسلسل الذي سيمتد لأربعة أجزاء إضافية بعد جزئه الحالي.
واستطاع المسلسل بالاستناد إلى الحبكة المشوقة، والابتعاد عن التقليد، والخروج عن النمطية، واستقطاب نجوم مثل عباس النوري وخالد القيش وسلافة معمار وفادي صبيح، ضمان المنافسة ليس على صدارة الأعمال الشامية فحسب، بل وعلى صدارة الموسم الرمضاني ككل.
وأخرجت العمل رشا هشام شربتجي، التي اعتذرت عن عدم إخراج “على صفيح ساخن” لانشغالها بـ”حارة القبة”.
–